عجيبة بيت أبو بشارة
نبيل عودة
– عجيبة، يا أم بشارة..
استيقظي.. القديسة العذراء الممتلئة بالنعمة… بارك الله اسمها… باركت بيتنا. استيقظي
يا أم بشارة.. !!
انطلق صوت أبو
بشارة من المفاجأة غير المتوقعة، لم يصدق ما تراه عينيه واخذ يردد مبتهلا:
– مريم العذراء يا
اُمي الحنونة، كم من مرةٍ اخطأتُ وتُسامحيني وكم من مرةٍ ابتعدتُ عنكِ وعندما أعودُ
بكُلِ شوقٍ تستقبليني. لم يُسمع قط ان احداً التجأ إلى حمايتِك وطلب معونتكِ ورُدّ
خائباً.
كان ينظر الى تمثال
السيدة العذراء، المثبت في زاوية احد عمدان البيت، غير مصدق لما تراه عينيه من زيت
يرطب قاعدته، في البداية لامس السائل بأصابعه، خفض رأسه ليتأكد بالشم أيضا من نوع الزيت
الذي يرطب قاعدة تمثال السيدة العذراء التي اختارها الله لتلد ابنه المخلص، هو زيت
الزيتون المقدس حقا، ويمتد من قاعدة التمثال حتى نصف متر على الأقل تحت القاعدة حيث
وضع تمثال السيدة العذراء داخل حفرة شقت خصيصا منذ أيام والده ليوضع فيها تمثال العذراء
المكرمة.
كان الزيت يسيل
ببطء شديد.. تأكد هذا حين جفف قاعدة التمثال بفوطة خوفا من ان يكون ما يراه خدعة بصرية.
هو حقا زيت الزيتون
المبارك كنسيا، تأكد له هذا الأمر باللمس والشم وأيضا بتذوقه لأطراف أصابعه.
ارتعشت قسمات وجهه،
بانت السعادة على محياه من هذه المفاجأة في هذا الصباح الربيعي المشرق. كان متأكدا
أن دعواته وصلواته هو وأهل البيت قد وجدت آذان صاغية وها هي الإشارة تجيء في هذا الفجر
الزاهي، دليلا ان الله يرعاه ويرعى أهل بيته، لأن الله يعرف ما في القلوب والضمائر
ولا تخدعه المظاهر، ها هو التأكيد يجيء من حيث لم يتوقع بابلغ شكل واقوى صورة، زيت
الزيتون المقدس يرشح من تحت تمثال السيدة العذراء ويرطب قاعدته وعمود البيت حيث حُفرت
زاوية العامود المقابل لمدخل البيت، ليتسع للسيدة أم المسيح ابن الله ليتبارك اسمها
واسمه واسم الرب، تماما في مواجهة كل من يدخل بيت أبو بشارة.
لا يذكر إذا كان
قد كرر ندائه لأم بشارة أكثر من مرة، فقد أيقظ انفعال صوته مما يرى والمرتعش من المفاجأة
أهل البيت، فتجمعوا في الديوان الرحب، متثائبين من إيقاظهم ساعتين قبل الوقت، ومتوجسين
من أمر غير مرغوب، لا يدركون كنهه قد يكون ألم بأب البيت، فهم لم يستوعبوا من صوته
المتهدج إلا أنه حدث ما يثير التوجس من مكروه، أو مفاجأة لا يعلمون وقعها، جعلت أب
البيت الذي يستيقظ قبل الجميع بساعتين على الأقل يطلق صوته المنفعل في ساعات مبكرة
من ذلك الفجر الزاهي.
لم تمض إلا ثوان
قليلة، حتى أصابهم ما أصاب أب البيت وعمدته من المفاجأة السارة لمشاهدة السيدة العذراء
تبارك بيتهم بزيت الزيتون المقدس وهي علامة لاستجابة الرب لأبنائه المخلصين كما كان
يقول بتهدج وتوتر من السعادة، عمدة العائلة أبو بشارة.
نساء الحارة هن
اول من عرف بخبر العجيبة والنساء لمن لا يعلم، أفضل جهاز إعلامي عرفته البشرية. في
ذلك الصباح أسرعت ام بشارة تدعوا جاراتها لتناول قهوة الصباح ورؤية عجيبة العذراء في
بيتها، جئن بشيء من الاستهجان، فزمن العجائب قد ولى ولكن ما شاهدنه بالعين ملأهم برهبة
الإيمان وخشوعه، فتمتمن بشكل جماعي صلاة “السلام عليك يا مريم”، وتباركن بقطع قطن مبللة
بالزيت المريمي دليل قاطع لمكرمة العذراء لبيت ابو بشارة، وتيمنا وأملا بان قطعة القطن
بما تحمله من زيت مريمي قداسته مؤكدة، هي أفضل مباركة للمنازل والأهل وكل من تطوله
مسحة من زيتها.
كادت أم بشارة
تفقد توازنها وهي تحدث نسوان الحارة عن العجيبة ومعناها والتي اختصهم بها الله، قالت
كلاما عاقلا وكلام لا يدخل العقل ويصنف في ظروف أخرى “بكلام مجانين”، لكنها العجيبة
التي أغلقت كل مسارات التفكير العاقل.. من شدة مفاجأتها وإثباتها بالرؤية واللمس والتذوق
لمن أراد مزيدا من الإثبات العملي.. ها هن نساء الحارة قد شلت المفاجأة السنتهن، فلم
يتحدثن عن فلانة التي خطفت وابنة فلان التي لم تترك شاب من شرها وزوجة فلان “المشلطة”
وابو جعفر، الله يستر، الذي يصرف ما يربح على بنات الشوارع في المدينة المجاورة.. وقصص
لا يعلم الا الله مصدرها وصحتها.
الزيت المقدس يزداد
ببطء شديد تحت قاعدة تمثال العذراء، وهو زيت فاخر مثل الزيت الذي يستعمل في الكنيسة
في جميع المناسبات الدينية. زيت تثبت رائحته وطعمه انه من النوع الفاخر جدا مثل زيت
كرم زيتونات أبو بشارة المعروف بجودة زيته. كل الدلائل العملية تبرهن إنها حقا عجيبة
وإشارة سماوية إلى رعاية العذراء لأهل بيته، اعترافا بإيمانهم الطاهر وطاعتهم لتعاليم
المسيح. كان قد شفي ابنه من مرض خبيث يقال أن عدد من يشفيهم الطب من ذلك المرض الملعون
لا يتجاوزون ربع المرضى… وأن صلاتهم للعذراء والمسيح والإله في علاه قد استجيبت وها
هي الإشارة الحاسمة تجيء دون توقع في فجر ذلك اليوم الربيعي.
نساء الحارة تباركن
بقطع قطن رطبنها بالزيت الذي يرطب قاعدة التمثال، وكان هذا برهانا لا يمكن نقضه، يعتمد
علية كمصدر إخباري موثوق لحقيقة العجيبة التي اختص الله بها جارتهم وحارتهم وأضحى شعورا
بالفخر لكل أهل الحارة.
بدأت عملية انتشار
تفاصيل العجيبة بطريقة تعجز عنها حتى الدعاية الصهيونية والإمبريالية التي تسيطر على
وسائل الإعلام العالمية، كما قال احد كفار البلد الذي يسكن لحظهم السيئ بجوارهم ويلقب
ب “سمير الكافر” حيث يدعي في كل مناسبة ان الصلاة هي مضيعة للوقت ولا تخدم مطالب السكان
من السلطات المسئولة، بل تخدعهم بأوهام ان الفرج سيأتي من السماء، السماء كما يقول
سمير الكافر، هي خدعة بصرية تفوقت على المنطق مما يضر بالوعي الاجتماعي وتنمي الخيالات
والخرافات، قال كلمات من الصعب استيعابها زادت من الشك باتزانه العقلي، لكن من أين
لكافر مثل سمير ان يغير حقيقة الإيمان ورعاية الله لأبنائه المؤمنين؟ لعله الآن أمام
هذه العجيبة المؤكدة سيلزم الصمت الى الأبد!!
أصبح حديث العجيبة
حديث البلد الوحيد، بدأت تفاصيل العجيبة المثيرة تصل للبلدات المجاورة، بل ويشاع أنه
تتوارد اتصالات تلفونية من خارج البلاد على الأقارب في البلد تستفسر حقيقة الخبر وترجو
تزويدها بالمعلومات الصحيحة، لانه إذا ثبت خبر العجيبة سيأخذون أول طائرة متاحة للوصول
إلى البلاد وزيارة بيت أبو بشارة ليتباركوا بزيت العذراء المقدس، ان مصدر معلوماتهم
يعتمد على ما بثته رويترز والبي بي سي وتلفزيون الجزيرة ووكالة الأنباء الفرنسية وغيرها
من وسائل الإعلام الكبيرة. بعض وكالات الأنباء وشبكات التلفزيون أرسلت طواقم من المراسلين
والمصورين لتسجيل عجيبة العذراء في بيت أبو بشارة المبارك من السماء.
اثار نشر وسائل
الإعلام لخبر أولي عن عجيبة العذراء في بيت أبو بشارة اعتمادا علي مصادر موثوقة تستند
بالتأكيد على روايات نساء الحارة الحاصلات على قطع قطن رطبت بزيت العذراء المبارك،
قبل الوصول لبيت أبو بشارة والتأكد الشخصي من العجيبة، “هيصة” كبيرة قلبت كل الحياة
الرتيبة في البلد والبلدات المجاورة.
كثرت الاتصالات
التلفونية ذلك الصباح سببت ضغطا على شركات التلفونات، نشأ خوف حقيقي من انهيار شبكة
الاتصالات التلفونية. غرق البريد الالكتروني لوسائل الإعلام بكم هائل من الاتصالات
والمراسلات تستفسر عن حقيقة الحدث، فنشروا إعلانات تطلب من المتصلين التريث ومتابعة
الأخبار على شبكاتهم التلفزيونية او مواقعهم على الشبكة العنكبوتية وأن طواقمهم تعمل
جاهدة للوصول إلى مكان الحدث لتغطيته ونقل التفاصيل الكاملة للمشاهدين.
الازدحام في شارع
الحارة حيث منزل أبو بشارة فاق التصور، امتد الازدحام الى الشوارع المحاذية، بل والبعيدة،
بل شوارع البلد كلها ازدحمت وأصيبت حركة السير بانسداد في الشرايين. البعض يقول انه
سمع في نشرة أخبار الساعة الثامنة أن الشرطة طلبت من المواطنين عدم الدخول الى البلدة
بسياراتهم، وانها اتفقت مع شركات الباصات لزيادة عدد الباصات التي تدخل الى البلد،
حيث لا يمكن إيجاد مكان حتى لربط حمار في هذا الازدحام غير المتوقع.
في تمام الساعة
السادسة صباحا أُبلغ خوري الطائفة على وجه السرعة عن العجيبة في بيت أبو بشارة، فلم
يكترث للأمر في البداية، لكن الشماس أبلغه أن المسالة حركت البلد كلها والمئات من كل
الطوائف يتدفقون على الحارة، بعض رجال الطائفة المحترمين تحققوا من الموضوع وأبلغوه
بضرورة زيارة بيت أبو بشارة ليتأكد بحكمته ان الموضوع رباني حقا. صحيح ان النساء لسن
مصدرا موثوقا للمعلومات ولكن الرجال في الحارة أيضا يؤكدون صحة أخبار نساءهم ولأول
مرة يتفق الجانبان بدون نقر ونقير على رواية واحدة، بل وتحول الحدث إلى خبر دولي تتناقله
وسائل الإعلام العربية والأجنبية وانه ليس دعاية صهيونية إمبريالية معادية للعرب أو
خبر انتصار وهمي لنظام عربي على العدوان الصهيوني. حتى راديو إسرائيل أذاع الخبر بدون
إضافة أو تزوير مدعيا ان هذه العجيبة هي انجاز للديمقراطية الإسرائيلية وتنفيذا لوعود
الحكومة في المساواة بين المواطنين العرب واليهود!!
سارع الخوري امام
هذه الحقائق الواضحة، بعد ان أيقن من صحة ما نقله إليه الشماس، إلى ارتداء ملابسه الكهنوتية
والتوجه لبيت أبو بشارة، أصابته الدهشة وهو في الطريق من هذا العدد الهائل من الناس
أمام البيت وعلى مدخل الحارة وشل حركة السير التي أغلقت الشوارع بالوقوف العشوائي.
أفسحوا الطريق
للخوري، فهرول شاعرا بأنه أمام حدث عظيم وان الجميع ينتظر تأكيد حدوث العجيبة من مصدر
روحاني موثوق، ان الله خصه بدور بالغ الأهمية قد يساهم في ترقيته من خوري بلدة صغيرة
إلى مطران كبير الأهمية في إحدى المدن الكبيرة.
كل ما استطاع الخوري
ان يقوم به أمام تمثال العذراء المبللة قاعدته بالزيت المقدس، انه التقط قطعة قطن صغيرة
رطبها بزيت العذراء، شمها مرتين أو أكثر، مسح بها كفة يده، وشم كفة يده، وأشرق وجهه
بابتسامة كبيرة، “صلب” (اشار بعلامة الصليب) على وجهه ثلاثة مرات وبدون مقدمات بدأ
بصلاة قداس بارك فيها العذراء والسيد المسيح وأبيه الذي في السموات وبيت أبو بشارة،
الأمر الذي اعتبر بمثابة اقرار رسمي من الكنيسة لحقيقة العجيبة وأهميتها المقدسة.
نظم أبو بشارة
وأولاده الدخول إلى البيت للتبارك بزيت العذراء، وفروا المئات من قطع القطن الصغيرة
وصندوق لوضع التبرعات كما أمر الخوري من أجل إقامة احتفال كبير يحضره سيادة البطريرك،
ربما يتحمس الحبر الأعظم بابا الفاتيكان للحضور والوقوف على العجيبة بنفسه، حيث أن
هدف الاحتفال كما شرح الخوري، تكريم السيدة العذراء على إشارتها الواضحة انها لا تهمل
المؤمنين الذين ضحى ابنها بحياته من أجلهم وإنها راعيتهم وشفيعتهم عند الله.
الصحف وصفت ما
يجري بأنه أشبه بهزة أرضية من العيار الثقيل، وانه لو عاد ريختر الى الحياة لأضاف الى
سلمه خمس درجات جديدة لتلائم الهزة الإنسانية الهائلة التي سببتها عجيبة الزيت في بيت
ابو بشارة.
امتلأت المتاجر
بالزبائن الراغبين بشراء تماثيل العذراء، أو تماثيل العذراء وابنها المخلص يسوع المسيح،
أو صورا مقدسة، لنصبها في بيوتهم تيمنا بما حدث في بيت أبو بشارة، بل والكثيرين توجهوا
الى الكنيسة ليبارك الخوري ما اشتروه من تماثيل وصور، ضمانا للطهارة والقداسة. يمكن
القول ان تماثيل العذراء أصبحت أهم تجارة لمدة عدة أشهر، فاستوردت تماثيل العذراء من
الصين الشيوعية البوذية الكافرة بواسطة تجار يهود لأن سعر الانتاج في الصين أرخص اربع
مرات من التماثيل المصنوعة في ايطاليا المسيحية، ملأوا بها السوق ولكن بأسعار تزيد
عشرة أضعاف على الأقل عن تكلفة استيرادها وتوزيعها في المحلات التجارية. بعض الفنانين
العرب واليهود استغلوا الموقف ورسموا العذراء، طبعوا رسوماتهم وربحوا أضعافا مضاعفة
عن أي لوحة فنية باعوها سابقا.
ابن أبو بشارة
البكر ابتكر فكرة عبقرية، منع المراسلين من التقاط الصور داخل البيت، قام هو نفسه بالتقاط
صور ملونة للعذراء بالكاميرا البيتية والزيت واضح حول القاعدة وتحت القاعدة وهي أهم
وثيقة عن العجيبة، طبع منها آلاف النسخ بحجم كبير، كرر الطباعة مرات عدة وبرر ذلك بالحفاظ
على كرامة العذراء من المصورين التجاريين حيث بيعت الصور بأثمان تكفل له ولكل أفراد
العائلة جولة حول العالم في أفخر القوارب البحرية.. وهذا مكرمة من السيدة العذراء بدون
ادنى شك.
الآف دخلوا لتلقي
البركة والحصول على قطع قطن مبللة بزيت العذراء وتبرعوا بالمال والذهب.
انتشرت أخبار عن
شفاء العديد من المرضى بعد مسح جبينهم بقطنة الزيت، مما شجع المترددين من زيارة التمثال
والتبرك بزيته، والحصول على قطعة قطن مبلولة بالزيت المقدس ولسان حالهم يقول: ”اذا
لا تفيد لا تضر”.
امتلأ الصندوق
أمام العذراء بالأموال وحلي الذهب، أُفرغ عدة مرات، همس بشارة الابن البكر لوالده انهم
هم أجدر من الخوري بما يتبرع به الناس، لأن العجيبة حصلت في بيتهم وليس في بيت الخوري
أو في الكنيسة. هذا شأن رباني نحن لا ندركه، ان طرق الله غير معروفة لنا نحن البشر،
ويجب عدم “التفريط” بما يصل للعذراء من تبرعات، ان الكنيسة ليست فقيرة ليزيدوها غناء
على غناء. وان ما طلبه الخوري، رغم قداسته واحترامه، كان متسرعا بسبب المفاجأة، وانهم
هم أهل البيت الذي خصه الله بعجيبة العذراء، على استعداد لتبني الاحتفال ومصروفاته.
كما كرمتهم العذراء فهم يكرمونها بأفضل قداس وأفضل احتفال.
الح أحد الأبناء
على الحصول على مبلغ ليجدد سيارته. ولكن والده أشار عليه بالتمهل، إذا ليس من المناسب
الآن والآلاف من عامة الناس ورجال الدين الأفاضل يتدفقون على البيت، والحكاية ما تزال
في أوجها، ان يستغلوا التبرعات التي توهب للسيدة العذراء لأمورهم الشخصية، وأن الصبر
مفيد في هذه الحالة.
الحكايات التي
انتشرت بان قطعة القطن المبللة بزيت العذراء المقدس وهبت الشفاء لمرضى عجز الأطباء
والمستشفيات عن علاجهم، وما قامت به بعض الصحف والمواقع الالكترونية، بنشر صور عشرات
الأشخاص الذين يؤكدون ان قطنة الزيت شفتهم من امراض صعبة، بل وروى البعض حكاياتهم مع
إمراضهم العصية وعن الشفاء، وكيف اختفى المرض بعد مسح جبينهم بالزيت المريمي المقدس،
كل هذا أحدث تدفقا لزيارة بيت أبو بشارة وعذرائه التي لا يجف زيتها، بل وفي بعض الأحاديث
ان التبرع للعذراء واجب من أجل ضمان الشفاء، لأن الذي لا يتبرع لا يشفى مريضه. فتكررت
زيارات الكثيرين من الزوار ليتبرعوا وللحصول على قطعة قطن تساعد في شفاء أعزائهم.
كل ليلة كان أبو
بشارة، بعد ان يستأذن العذراء، يفرغ الصندوق من الأموال وقطع الذهب والفضة وغير ذلك
من الأحجار الكريمة. وقد قر رأيه ان لا يعطي الخوري أي شيء. امتعض الخوري، ولكنه لم
يتفوه بأي كلمة. ويبدو، حسب معلومات غير مؤكدة، ان الخوري بدأ بحملة مضادة لإقناع الناس
ان وراء حكاية العذراء والزيت سر لم يكشف بعد. “تمهلوا ولا تصدقوا الشائعات عن الشفاء
من الأمراض فلا شيء مثبت”، كان يهمس للمقربين له.
مضت أيام وخف القادمون
للتبرك بزيت العذراء المقدس. بدأت الحياة تعود الى مسارها السابق، رغم ان الزيارات
للعذراء لم تتوقف.
لكن، المجد لله
في علاه، الزيت لا يتوقف، بل انتشر حول قاعدة التمثال ومن جانبيه بلا توقف وامتد نحو
الأرض، وهو عمود لعقد قديم واسع مقسم إلى عدة غرف، والعمود نفسه مليء بالتراب الذي
لا يرتوي بسهوله ويكاد يكون متر ونصف المتر عمقه من كل جانب. والعقد لارتفاعه الكبير،
أقيمت فيه علية حيث تخزن مؤونة البيت، وفي وقتنا لم يعد استعمال للعلية لتخزين مؤونة
البيت كما كان الحال ايام زمان، وأصبحت العلية مخزنا لكل ما لا يستعمل يوميا. هناك
درج خشبي، ملاصقا لحائط العقد يقود إلى العلية الواسعة، التي لا ينفك ابنهم الأصغر
يطالبهم بتحويل قسم منها إلى غرفة نوم، وفتح نافذة خاصة للغرفة، ولكن الحال لم تكن
جيدة، لهذا المشروع، وها هو ابنهم يعود، بعد ان غيرت العجيبة حالتهم المادية، ويصر
أن يستقل بغرفة على قسم من علية العقد الواسعة.
انشغل أهل البيت
كل في مشاريعه. والأب يحذرهم: “لا تنسوا السيدة العذراء. هذا خيرها الذي نزل علينا”.
حكاية العجيبة
أضحت أمرا عاديا. ما عدا سمير الكافر لا يجرؤ أحد على التشكيك بحقيقتها.
كلما سؤل أبو بشارة
في نادي المتقاعدين عن آخر أخبار العذراء والزيت يتحدث بفخر ان الزيت لا يتوقف بل يزداد
تدفقا، وانه عندما جدد دهان البيت، لم يدهن العمود بل حافظ عليه كما هو، لأنها مشيئة
العذراء كرم الله وجهها. وانه بلل الكثير من الفوط بالزيت الذي بدأ يسح على الأرض ايضا،
ويحتفظ بالفوط بمكان نظيف لأنها مبللة بالزيت المقدس، وان البعض يأتي لشرائها، خاصة
السياح الأجانب الذين سمعوا عن عجيبة عذراء بيته، ولكن السعر الذي يطلبه لا يشجع ابناء
البلد على شراء تلك الفوط. وان السياح لا يجادلون بالسعر. وان سعر الفوطة مع الصورة
الملونة للعذراء تكفي وجبة غذاء لأهل البيت في مطعم فاخر!!
لم يعرف احد ان
الوقت يخبئ لهم مفاجأة أغرب من الخيال.
أم بشارة صعدت
للعلية لأخذ حاجتها من زيت الزيتون، من خابية (الخابية هي جرة كبيرة تتسع لأكثر من
50 – 80 لتر من الزيت كانت تستعمل في البيوت الفلسطينية القديمة لتحزين الزيت وما زالت
بعض البيوت تستعملها).
فوجئت ام بشارة
ان الخابية فارغة حتى النصف:
– أبو بشارة.. الخابية
فارغة تقريبا!!
– يا امرأة انا عباتها
بأربعة “تنكات” حتى العنق.. لم نستعمل بعد الا نصف تنكة؟
– انها نصف فارغة..
أين ذهب الزيت؟
– الله يستر.. ربما
لا ترين جيدا.. مدي يدك.
– إنا في كامل قواي
العقلية، لا تجعلني مجنونة وعمياء. لا أرى زيتا إلا في القاع.
– هل سرق زيتنا؟
هل يجوز ان ما ظهر تحت تمثال العذراء هو زيتنا؟
تحسست أم بشارة
الجرة فوجدت سطحا كبيرا في مكان منخفض رطبا بالزيت. وعلى أرضية العلية بقعة زيت كبيرة
تماما فوق العمود الذي وضعت في داخل حفرة فيه تمثال السيدة العذراء. احتارت هل تضحك
أم تبكي على ضياع مخزون الزيت.
– كشفت سر زيت العذراء
يا أبو بشارة.
– ما هذا الخرف يا
امرأة؟
– الجرة “مسطوحة”
والزيت يتسرب منها ببطء إلى عمود البيت، والنقطة التي حفرت للتمثال داخل العمود، خرج
منها الزيت.
– إذن زيت العذراء
هو زيت خابيتنا؟
تجمع الأولاد على
صوت والديهما يتداولان المصيبة. قال الابن البكر مبتسما:
– ممنوع ان يصل هذا
الكلام للناس. هل فهمتم؟ سنتهم ان فعلتنا بزيت العذراء مقصودة.
بعد تفكير قصير
أثنى أبو بشارة على كلام ابنه، وأضاف:
– لا تظنوا ان الجرة
فرغت من الزيت بالصدفة، انها مشيئة الله، هل تطنون ان الله ينتج زيتا ليقدس المؤمنين
به؟ هذا لا يغير شيئا من حقيقة العجيبة. لو شاء الله لفاضت الجرة وأغرقت ارض البيت..
ولكن حكمته أن يصل الزيت لتمثال العذراء. القصد الإلهي هنا واضح. انعم علينا بالعجيبة
وحسن أوضاعنا استجابة لصلواتنا، فليكن اسمه مباركا!!
nabiloudeh@gmail.com