الثورة السورية : يسار عربي أم صهيونية ماركسية من نوع جديد؟!
نبيل عودة
كشفت الثورة السورية تخبط أكثرية تيارات اليسار العربي، أو الأصح قادة اليسار العربي.
كنت على ثقة أثناء ثورتي تونس ومصر، أن قوى الثورة، التي خاضها الشباب غير المنتمي للفكر الأصولي والتنظيمات السياسية الإسلامية، أو الأحزاب الرسمية المصرح لها، غير مؤهلة على بناء تنظيماتها واحتلال الواجهة السياسية،انها (قوى الثورة)غير قادرة في الظروف الثورية التي فجرتها،على تجميع صفوفها والتحول الى القوة الحاسمة في مجتمعها. وكان واضحا ان الأحزاب النشيطة جزئيا ومصرح لها حسب القانون في النشاط السياسي، غير مؤهلة لقيادة حركة تغيير اجتماعي وسياسي بهذا الاتساع.أنظمة القمع نجحت بمنع قيام تنظيمات سياسية، أو وضعتها تحت الملاحقة والقمع، مما لم يؤهلها لأي دور هام في تفجير الربيع العربي والتأثير عليه سياسيا وتنظيميا.
ان الطابع الباستيلي للثورات العربية (على نسق ثورة الباستيل الفرنسية التي كانت انفجارا ثوريا غاضبا يفتقد للقيادة وللرؤية الاجتماعية) كان الجانب الضعيف الذي ترك الأبواب امام قوى دينية حسنة التنظيم والتمويل في مجتمعات عربية لم يترك لها حكامها الا اوهام الخلاص بتدخل مباشر من السماء. ويمكن ان نلخص بالقول ان التنظيمات الوحيدة التي ظلت على الساحة، بفضل الدعم المالي الواسع الذي كانت تتلقاه من مصادر عربية وغير عربية، وبهدف لا يخفى على أحد ، شكلت مؤسساتها الاجتماعية وشبكة واسعة من الخدمات الاجتماعية وغير الاجتماعية، مهدت لها نجومية واسعة في أوساط الفقراء والمعدومين، في أنظمة عربية حولت 80% من الشعوب العربية إلى شعوب فقيرة ومعدومة وشبه جاهلة تعليميا أيضا.. تلك هي التنظيمات الإسلامية الأصولية.
أصلا لم تقم أي تنظيمات إسلامية غير أصولية. وشاهدنا كيف يتحالف النظام مع تلك التنظيمات، وكثيرا ما خطب ودها. وسابقا قال الكواكبي :" الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني". فالويل من لقاء الاستبداديين!!
ليس بالصدفة أن المكانة السياسية للأصولية الدينية ارتفعت لتحتل الصدارة، رغم موقفها البعيد عن المشاركة في حركة الربيع العربي. ورغم تناقض أطروحاتها الاجتماعية مع أطروحات ثوار ميادين التحرير.
لست متفائلا من التطورات. ولكني لست متشائما من المستقبل. ما يقلقني هو الثمن الذي ستدفعه المجتمعات العربية لتتخلص من أوهام الدين السياسي أو السياسة الدينية، أو الاستبداد الديني...
من ناحية أخرى لن أتفاجأ إذا قام قادة إسلاميين لتعقيل حركاتهم، فكرة تبدو غيبية، وربما غبية، هل يوجد عقلنة بدون قوة تفرضها كما هو الحال في تركيا ، حيث يشكل العسكر الحراس للعلمانية؟
إن أي تجاوز لعلمانية المجتمع في عصرنا الحضاري المتنور سيقود إلى ردود فعل تطيح بتنظيمات الدين السياسي وتسقطه سياسيا أو تقلص تأثيره السياسي.والسؤال ما هو الثمن الذي سيدفعه المجتمع في مثل هذه الحال؟ ربما هذا واضح في تونس بشكل نسبي. في مصر الصورة مركبة أكثر. في سوريا كل الأوراق مبعثرة الآن. ولكن لا تبرير إطلاقا لفهم أن الربيع العربي، بات خريفا عربيا.سيظل ربيعا عربيا، وكان املنا ان يكون ربيعا غير دموي!!
ما اعنيه بتجاوز علمانية المجتمع، هو قيام أنظمة دينية بدل أنظمة القمع الفاسدة التي سقطت. الحل المفترض الذي توقعت ان يفرضه الربيع العربي ، هو نظام ديمقراطي ليبرالي يفصل بين الدين والدولة. وينهج على أساس حرية للدين وحرية من الدين. ولا استعمل اصطلاح "ديمقراطية " بمعناه التاريخي الفلسفي، إنما بمعناه التطبيقي العملي المعاصر بصفته نظاما للتعددية السياسية وتبادل السلطة ، وهذه قشور الديمقراطية فقط، أما بالتطبيق، الديمقراطية تعني بناء نظام سياسي للدولة على أسس قانونية تفصل بين السلطات وتفرض الرقابة القانونية على أجهزة الحكم وكوادر السلطة، ونظام يحمي أمن المجتمع وحقوق الإنسان والمواطن حسب جميع المواثيق الدولية، ويبني اقتصادا على أسس متينة تكفل العمل والرفاه للمواطن، وتكفل تطوير مرافق التعليم والأبحاث التي بدونها لا تقدم ولا تطور. والمجتمع الديمقراطي يطور الحياة الحزبية (أو تنظيمات المجتمع المدني) للمنافسة على خدمة المواطن وليس للمنافسة على المصالح الشخصية لقادة الأحزاب والتنظيمات. وأنا لا أعرف نظاما ديمقراطيا إلا الأنظمة الأوروبية ودساتيرها وطرق تنظيمها لمجتمعاتها واقتصادها وخدماتها للمواطنين. في المجتمعات الديمقراطية، المجتمع في خدمة المواطن وليس المواطن في خدمة المجتمع، والدين في خدمة المواطن وليس المواطن في خدمة الكهنوت الديني ورجاله.
ربما يكون السقوط الكبير في هذه الثورات بروز عجز اليسار العربي عن التعامل الفكري السليم مع حركات التغيير، وهذا برز بقوة في الموقف من الثورة السورية.
في فترة ما عرفنا في فلسطين ما يعرف اليوم في الدراسات السياسية الإسرائيلية ب "الصهيونيين الماركسيين"، وأكاد أرى تماثلا كاملا بين نهجهم الفكري والعملي ونهج الماركسيين اليساريين العرب من ثورة الشعب السوري، أو لنسميهم ب "البعثيين الماركسيين".
الصهيونيون الماركسيون، نَّظروا حول الضرورة العاجلة، لإعادة إيقاف الهرم الاجتماعي اليهودي على قاعدته السليمة، من أجل إتاحة المجال لنشوء الصراع الطبقي في المجتمع اليهودي العتيد، وهو تطور لن يتحقق إلا ، حسب تنظيراتهم، في إطار إقامة الدولة اليهودية القومية، وهذا يقود فيما بعد إلى الصراع الطبقي ثم إلى الثورة الاشتراكية وكل الحلم الرطب الذي لا يختلف عن أحلام سائر الماركسيين بكل تياراتهم .. وعليه كانوا نشطاء في احتلال فلسطين وتشريد شعبها في سبيل بناء حلمهم الماركسي. وليس سرا أن الاتحاد السوفييتي في تلك فترة (1948- فترة ستالين)، لم يكن بعيدا عن نفس تلك الأفكار "الماركسية" ، فدعم الصهيونية ومدها بالسلاح، كما دعمها اليسار العالمي كله بفهمهم الصبياني انها حركة تناضل ضد الاستعمار البريطاني لفلسطين ( وبعضهم توهم انها حركة لبناء مجتمع اشتراكي في فلسطين) وتغاضوا عن الجرائم ضد الانسانية التي ارتكبتها الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني ( عرض للجرائم اوردها المؤرخ اليهودي الانساني ايلان بابه في كتابه "التطهير العرقي في فلسطين")!!
البعثيون الماركسيون وقفوا بمعظمهم ضد ثورة الشعب السوري ، بتنظيرهم ،عن نظام الممانعة، النظام المقاوم للاستعمار، نظام الصمود في وجه المؤامرات، نظام وطني قومي ، والشعب السوري الثائر مجموعات متآمرين وخونة، وعملاء عرب للإمبريالية والصهيونية. لذلك يتصدى البعثيون الماركسيون لمشاريع إسقاط النظام السوري المقاوم .
الصهيونيون الماركسيون شاركوا في سياسة تشريد الشعب الفلسطيني واحتلال وطنه، عمليا تنفيذ الأيديولوجيا الصهيونية التي قال عنها قائد صهيوني هو كورت بلومنفلد بأنها:"هدية أوروبا لليهود". ربما كانوا "إنسانيين" أكثر برفض المذابح ضد المواطنين العزل. وبرفض هدم هذا الكم الرهيب من القرى والبلدات الفلسطينية ( أكثر من 500 بلدة).
البعثيون الماركسيون لا يقلقهم 6000 قتيل برصاص الشبيحة وقوى أمن النظام السوري، ولم يسمعوا عن 60 ألف معتقل( البعض يقول 100 ألف) منهم 20 ألف غير معلوم مصيرهم. وعشرات آلاف الجرحى من "المتآمرين الامبرياليين" أبناء الشعب السوري.
نظام ممانعة وصمود؟! لم نعرف ممانعته وصموده إلا في سحل شعبه المنتفض ضد فساد النظام وبطشه وإفقاره لشعبه، وسرقة ثروته الوطنية وتحالفه مع ملالي ايران ونظامها القمعي!!
لم أسمع عن شعب تحول كله إلى متآمرين على نظامهم. شعب يوصف بالعمالة للإمبريالية وكأن النظام السوري يشعلها حربا لا تتوقف ضد المحتل في الجولان، وضد ضرب منشئاته الوطنية، ولم يشارك تحت القيادة العسكرية للامبريالية الأمريكية في ضرب العراق وضرب القوى الوطنية اللبنانية ، واحتلال مدمر للبنان استمر أربعة عقود مارس فيها النظام السوري القمع والنهب للثروة الوطنية اللبنانية، وما زال آلاف اللبنانيين مفقودين في السجون السورية ولا يعلم ذويهم عن مصيرهم شيئا.. الى جانب ما كشف عنه من مقابر جماعية لمذابح نفذتها المخابرات السورية ضد ابناء لبنان. وهل نسينا مخيم تل الزعتر الفلسطيني وجرائم النظام البعثي الأسدي ضد اطفاله ونسائه وسائر سكانه؟!
"نظام الممانعة الوطني" قاد سوريا من تطور إلى تطور أدنى، من رقي تعليمي إلى تدهور متواصل، وتراجع متواصل في مستوى الدخل ومستوى حياة المواطنين، من دخل 400 دولار شهري للعامل عام 1980 إلى ما دون أل 100 دولار شهري اليوم. وهناك فجوة مدمرة بين نموه الاقتصادي وازدياد عدد السكان ، والتوقعات قبل الانتفاضة انه في حدود العام 2015 ستزداد البطالة في سوريا بنسبة 100% ، أي النظام الاقتصادي لا تعنيه مشاكل الزيادة السكانية وكيفية انتاج اماكن عمل جديدة. ونلاحظ ان معدل الدخل للمواطن من الانتاج القومي الاجمالي تسير من انخفاض الى انحفاض أي بزيادة افقار المواطنين.
هل سيصمدون بشعب جائع قرف حكامه بسبب سرقاتهم للثروة الوطنية وفرض رجالات السلطة ومقربيهم الخاوة على المصالح التجارية والمهنية حتى الصغيرة منها؟
بماذا يختلف البعثيين الماركسيين عن الصهيونيين الماركسيين ؟
وصلني قبل أسبوع بيان صادر من قواعد الحزب الشيوعي السوري. هو الرد الأمثل على البعثيين الماركسيين. تتنصل فيه القواعد الشيوعية السورية من قيادة الحزب الشيوعي السوري الداعمة للنظام، وتعلن انحيازها للثورة ويؤكد بيان قواعد الحزب إنهم"غير معنيين بهذه القيادة وممارساتها السياسية" وأكدوا حرصهم الشديد "على مواكبة نضالات شعبنا ورفد طاقاته وقواه الوطنية والديمقراطية، والعمل معاً لبناء القاعدة الوطنية العريضة التي تشكل ظهيراً حقيقياً للانتفاضة"
وجاء في البيان أيضا: "إذا كانت المواقف التقليدية لأحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، بما فيها الشيوعية، تؤكد بما لا يقبل الجدل نهجها الانتهازي الأصيل، ومجافاتها لمصالح الطبقات الشعبية التي تدَّعي تمثيلها، والتحاقها المطلق بسياسة النظام، وارتباطها بمصالح الطغمة الحاكمة، فإن المواقف الراهنة لقياداتها تعدُّ الأسوأ على الإطلاق، في كونها تكريساً للتمزيق الحزبي والتشتت النضالي، بل والتسابق لكسب ود السلطة الاستبدادية والدوران في فلكها، وتغطية عوراتها وجرائمها، متعيشة على فتات بعض المصالح الضيقة والشخصية لحفنة من المتسلطين على الحزب وقراراته".
ويواصل البيان:" نعتبر أنفسنا غير معنيين بهذه القيادة وممارساتها السياسية... وإن حراكنا هذا يأتي في مرحلة تحول ثوري يمر بها وطننا، ما يرتب علينا الاستمرار في النضال لتحقيق مطالب شعبنا في الحرية والكرامة والعدالة، آخذين بعين الاعتبار أن العملية النضالية تتطلب حشد كل الشيوعيين واليسار ومن يتحالف معهم بجبهة واحدة يصقلها الميدان وتجمعها وحدة الهدف والمصير، على طريق إعادة الوجه المشرق للحركة الشيوعية السورية كحركة كفاحية منحازة إلى جانب الشعب، النابذة لكل الانتهازيين والمتكسبين على حساب نضالهم وتاريخهم".
اؤلئك هم إخواني في الفكر الماركسي. ليس منفذي المشروع الصهيوني ولا منفذي المشروع ألبعثي ألأسدي!!
nabiloudeh@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق