الجمعة، 30 مارس 2012

هل بدأ "الرينيسانس"* في الشرق؟!

هل بدأ "الرينيسانس"*  في الشرق؟!

الأخوان المسلمون السوريون نحو "ربيع إسلامي": من اجل دولة مدنية ديمقراطية تعددية تداولية ومواطنة ومساواة تنبذُ الإرهابَ وتسودها العدالة والقانون والفصل بين السلطات
نبيل عودة 
أطلق الأخوان المسلمون في سوريا "عهد وميثاق "، ليكون ، كما جاء في بيانهم الهام:" أساساً لعقد اجتماعيّ جديد، يؤسّس لعلاقة وطنية معاصرة وآمنة، بين مكوّنات المجتمع السوريّ، بكلّ أطيافه الدينية والمذهبية والعرقية، وتياراته الفكرية والسياسية".
حين قرأت الخبر ، تذكرت تعقيبا قرأته مرة للفخر الرازي على آية "ويل للمطففين" ( الطفيف = الحقير ، الخسيس) وسجلته في احد دفاتري، قال في تعقيبه:" من طلب حق نفسه من الناس ولا يعطيهم حقوقهم كما يطلب لنفسه، فهو من هذه الجملة". فهل حقا يمكن ان يتجاوزوا ما اشتهر عنهم ، ام هي مناورة سياسية؟
اعترف ان تصديق ما قرأت كان صعبا للغاية، ومع ذلك أحسست بما يشبه عودة الروح  والتفاؤل، ومع ذلك أكتب بشيء من التردد، خاصة  لمثقف موضوعي مثلي لم يشاهد من الحركات الإسلامية ما يبعث على الثقة بإمكانية قبول الآخر المختلف ، او قبول مجتمع تسوده المساواة المطلقة ، نقي من فكر "أهل النار وأهل الجنة" ، تسوده رؤية مدنية لا تفرق بين المواطنين، ودستور حسب ارقى الصياغات الحقوقية الدولية ، والتزام نهج ديمقراطي في إدارة الدولة والمجتمع.
على الأقل هذا ما يتعهدون به.. وهو موقف لا نرفضه ، بل نثني عليه ونرحب به. ونرجو ان لا يكون كلاما في الهواء لأمر في نفس يعقوب.
وساتعامل مع عهدهم المعلن بترحيب ، واعترف اني ادخل في مفارقة ذاتية صعبة جدا، تحتاج الى أكثر من بيان وتعهد وطرح بنود هي حلم كل انسان عربي عقلاني وغيور على مصير الشعوب العربية ومكانتها في عالم لا يحترم التائهين وراء الغيبيات والخوارق، بل ينحني اجلالا للمجتمعات التي تطور العلوم و التقنيات والاقتصاد وتضمن كرامة المواطن وحقوقه ورقيه.وأمل ان يكون هذا البيان فاتحة لمرحلة جديدة .
أشعرني نص "العهد والميثاق" بتفاؤل كبير بأن العقل والعقلانية  لم تغب وحاضرة في أذهان الجماعات الاسلامية.
والسؤال المحير لماذا ظلت غائبة عقلانيتهم ، اذا صحت، حتى هذه اللحطة المصيرية ؟! هل طرحها الأن يحمل اهدافا لم تبرز بالعهد والميثاق؟
من ناحية أخرى اكون بلا ضمير اذا لم ارحب بحماس بمثل هذه المواقف ، وآمل ان ترتفع إلى المكان الأول بالتطبيق على ارض الواقع أيضا، بنبذ كل فكر، مهما كان مصدره، يتناقض مع العهد والميثاق المعلن. ولا بد، كما آمل،ان نلمس التغيير ليس بالنصوص فقط، وإذا لم يحدث التغيير الآن، والربيع العربي يواجه مرحلته الحرجة، في تونس ومصر وليبيا وسوريا، فسيفقد اعلان العهد والميثاق قيمته الفعلية، وسيزيد التوجس الدولي الواسع  من  ان يقود الربيع العربي إلى صعود تيارات أصولية تعمق الاحترابات الطائفية والإثنية في الساحة العربية والدولية ، وتثير مخاوف أوساط وطنية ويسارية وأبناء طوائف غير إسلامية ( وإسلامية غير سنية أو بالعكس)، وأقليات أثنية في العالم العربي، من أن يفقدوا حتى القليل جدا من الحقوق الناقصة التي حصلوا عليها من الأنظمة الفاسدة.
 بيان الجماعة السورية الاسلامية بحد ذاته هام جدا اذا اتبعته خطوات عملية في نشر الثقة عبر خطاب حضاري مع الأقليات ، ونقد ونقض كل الفكر المهين  الذي يملآ الفضائيات العربية والمعادي للمختلفين ثقافة ودينا وجنسا وانتماء اثنيا، عندها لن نتردد في القول انها قفزة عظمى لم يكن يتوقعها احد ، ومجرد اعلانها يعني ان عالمنا العربي بدأ يسير نحو مرحلة جديدة وعقلية جديدة، ستقلب كل حسابات المتربصين بمصيرنا.
الواقع بحكم تطوره يغير. وحلمنا القديم ان  تنتصر العقلانية والتفكير العقلاني ويصبحان على رأس أجندة  حركة لها دورها الكبير في الانتفاضة السورية، وشكل الخوف من صعودها إلى السلطة حججا وتبريرات لدى منظمات سياسية وطنية ويسارية، للدفاع عن نظام الأسد ، وتبرير جرائمه.
عهد وميثاق حركة الإخوان المسلمين في سوريا، هو تحول مثير وهام وحاسم ولا بد أن ينعكس إيجابا على الربيع العربي كله.
لأول مرة نقرأ طرحا إسلاميا ( سوريا حتى الآن) لا يمكن أن يعترض عليه أي جانب ، لأنه يطرح مصالح كل الأطراف ، وأهمية هذا الطرح تتلخص أيضا في هدف هام ، إقناع القوى المترددة والمتوجسة من صعود قوى إسلامية للسلطة في سوريا، على الصعيد الداخلي وعلى الساحة الدولية، بأن التغيير في النظام السوري لن يكون الا لمصلحة الشعب السوري ، والانتقال من نظام قمعي فاسد إلى نظام ديمقراطي علماني يضمن المساواة الكاملة لجميع المواطنين  بدون تمييز.
هل حقا سنعيش مرحلة انتقال من الهرطقات  المدمرة الى مضامين دينية عقلانية تليق بعالمنا المعاصر؟
في العهد والميثاق الصادر في (25 – 03 – 2012) يلتزم الإخوان المسلمون في سوريا ببرنامج واضح، اورد بنوده كاملة:
(1 – دولة مدنية حديثة، تقوم على دستور مدنيّ، منبثق عن إرادة أبناء الشعب السوريّ، قائم على توافقية وطنية، تضعه جمعية تأسيسية منتخَبة انتخاباً حراً نزيها، يحمي الحقوقَ الأساسية للأفراد والجماعات، من أيّ تعسّفٍ أو تجاوز، ويضمن التمثيلَ العادل لكلّ مكوّنات المجتمع.
2 - دولة ديمقراطية تعددية تداولية، وفق أرقى ما وصل إليه الفكر الإنسانيّ الحديث، ذات نظام حكم جمهوريّ نيابيّ، يختار فيها الشعب من يمثله ومن يحكمه، عبر صناديق الاقتراع، في انتخاباتٍ حرة نزيهة شفافة.
3 – دولة مواطنة ومساواة، يتساوى فيها المواطنون جميعاً، على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي هي مناط الحقوق والواجبات، يحقّ لأيّ مواطنٍ فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استناداً إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجالُ والنساء، في الكرامة الإنسانية، والأهلية، وتتمتع فيها المرأة بحقوقها الكاملة.
4 - دولة تلتزم بحقوق الإنسان - كما أقرتها الشرائع السماوية والمواثيق الدولية - من الكرامة والمساواة، وحرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد والعبادة، وحرية الإعلام، والمشاركة السياسية، وتكافؤ الفرص، والعدالة الاجتماعية، وتوفير الاحتياجات الأساسية للعيش الكريم. لا يضامُ فيها مواطن في عقيدته ولا في عبادته، ولا يضيّقُ عليه في خاصّ أو عامّ من أمره.. دولة ترفضُ التمييز، وتمنعُ التعذيبَ وتجرّمه.
5 - دولة تقوم على الحوار والمشاركة، لا الاستئثار والإقصاء والمغالبة، يتشاركُ جميع أبنائها على قدم المساواة، في بنائها وحمايتها، والتمتّع بثروتها وخيراتها، ويلتزمون باحترام حقوق سائر مكوناتها العرقية والدينية والمذهبية، وخصوصية هذه المكوّنات، بكل أبعادها الحضارية والثقافية والاجتماعية، وبحقّ التعبير عن هذه الخصوصية، معتبرين هذا التنوعَ عاملَ إثراء، وامتداداً لتاريخ طويل من العيش المشترك، في إطار من التسامح الإنسانيّ الكريم.
6 - دولة يكون فيها الشعبُ سيدَ نفسه، وصاحبَ قراره، يختارُ طريقه، ويقرّرُ مستقبله، دون وصاية من حاكم مستبدّ، أو حزب واحد، أو مجموعة متسلطة.
7 - دولة تحترمُ المؤسسات، وتقومُ على فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، يكونُ المسئولون فيها في خدمة الشعب. وتكونُ صلاحياتُهم وآلياتُ محاسبتهم محدّدةً في الدستور. وتكونُ القواتُ المسلحة وأجهزةُ الأمن فيها لحماية الوطن والشعب، وليس لحماية سلطة أو نظام، ولا تتدخّلُ في التنافس السياسيّ بين الأحزاب والقوى الوطنية.
8 - دولة تنبذُ الإرهابَ وتحاربُه، وتحترمُ العهودَ والمواثيقَ والمعاهداتِ والاتفاقياتِ الدولية، وتكونُ عاملَ أمن واستقرار، في محيطها الإقليميّ والدوليّ. وتقيمُ أفضلَ العلاقات الندّية مع أشقائها، وفي مقدمتهم الجارة لبنان، التي عانى شعبُها - كما عانى الشعب السوريّ - من ويلات نظام الفساد والاستبداد، وتعملُ على تحقيق مصالح شعبها الإستراتيجية، وعلى استرجاع أرضها المحتلة، بكافة الوسائل المشروعة، وتدعمُ الحقوقَ المشروعة للشعب الفلسطينيّ الشقيق.
9 - دولة العدالة وسيادة القانون، لا مكانَ فيها للأحقاد، ولا مجالَ فيها لثأر أو انتقام.. حتى أولئك الذين تلوثت أيديهم بدماء الشعب، من أيّ فئة كانوا، فإنّ من حقهم الحصولَ على محاكمات عادلة، أمامَ القضاء النزيه الحرّ المستقل.
10 - دولة تعاون وألفة ومحبة، بين أبناء الأسرة السورية الكبيرة، في ظلّ مصالحة وطنية شاملة. تسقطُ فيها كلّ الذرائع الزائفة، التي اعتمدها نظامُ الفساد والاستبداد، لتخويف أبناء الوطن الواحد بعضهم من بعض، لإطالة أمَدِ حكمه، وإدامة تحكّمه برقاب الجميع.)
رأيت أهمية خاصة في استعراض البنود العشرة ، كما جاءت في بيان الحركة. وانأ على ثقة ان هذا البيان هو خطوة سياسية عقلانية هامة في معركة الشعب السوري للتخلص من النظام الطائفي القبلي المستبد. وآمل ان النص ليس مجرد شعارات تحتفي بعد الوصول للسلطة ، وللمجتمعات العربية تجارب مريرة لا يمكن تجاهلها.
وأيضا لا بد أن أضيف ان هذا التطور في الرؤية السياسية ، لحركة إسلامية  لا بد أن يكون نقطة تحول هامة تترك إسقاطاتها على مجمل الإسلام السياسي ، على الأقل في دول الربيع العربي..
ما كان سابقا لم يعد يناسب المستقبل. إن التغيير الحتمي في مواقف الحركات الاسلامية، خاصة في دول الربيع العربي، ليس وليد لعبة سياسية. لأنه كان واضحا ، وهو واضح اليوم أكثر، ان الربيع العربي رغم كونه انتفاضة شعبية بدون قيادات وبدون تنظيمات حزبية جاهزة لتوجيهها ، أعطى مساحة نشاط واسعة للحركات الإسلامية ، الأكثر جاهزية تنظيمية لأسباب عديدة منها ان النظام كان يرى بها رغم العداء الشكلي، وسيلة من وسائل عزل المواطنين عن الحياة الاجتماعية والنضال السياسي الوطني، وإغراق الجماهير الواسعة  بأوهام الخلاص من السماء. إلى جانب التزامهم "بأولي الأمر" ( أي قادة الأنظمة الفاسدة) الذي برز في الانتفاضة، أي ضد الثورة ( في مصر مثلا)!!
 كنت على قناعة وما زلت، ان القديم والمشوه كله ، الديني والسياسي سيسقط ، وكان قلقي ان إسقاط "القديم – الجديد"، الذي أمسك بالسلطة، سيدفع إلى انتفاضات عربية جديدة قد تكون أكثر عنفا ودموية إذا ظن المسيطرون الجدد على دفة السلطة، انه يمكنهم تجاوز حركة التغيير الجذرية، والحلم بالديمقراطية والمساواة التي ألهمت ثوار ميادين التحرير، وبناء نظام طالباني.
من هنا الأهمية الخاصة، والتي تبشر بربيع إسلامي، كما جاء في عهد وميثاق الحركة الإسلامية السورية.
ونأمل أن يمتد هذا الربيع الإسلامي لما فيه خير الشعوب العربية.
يمكن تسجيل تاريخ هذا "العهد والميثاق" (25.03.2012) كرينيسانس شرقي وبداية عودة العالم العربي الى التاريخ .
هل يحق لنا ان نتفاءل بان رينيسانس شعوبنا العربية قد بدأ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرينيسانس = عصر النهضة الأوروبية.
nabiloudeh@gmail.com

الخميس، 22 مارس 2012

حتمية التغيير في عالم متغير ..


حتمية التغيير في عالم متغير ..



نبيـــــل عــــــودة




يشتد الانتقاد في المجتمعات العربية والإسلامية، لما يعرف بـ "الحداثة الإمبريالية الصليبية الصهيونية "، حسب تعابير دارجة ، أضحت صيغة ثابتة تستعمل تلقائيا للتغطية على كل حدث يثير الشك في مضمونه، دون أي اجتهاد لفهم الحالة التي قادتنا الى الحدث المعين، وكأننا مجرد نماذج مختبرات تجري علينا التجارب دون ان يكون لنا راي او رد فعل او تحرك مضاد، وكأن الصيغة اعلاه هي كل ما نملك للتوظيف المضاد.

  السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل كون الحداثة (أو رديفها: التنوير) التي جاءت ضمن انجازات المجتمعات الرأسمالية المتطورة، وهي نفسها مجتمعات النظام الإمبريالي ، كاف لكي نرفضها ونتعامل معها بعدائية ورفض بدون تمييز ما هو ضروري وملح ومن المستحيل رفضه، وبين ما هو مرفوض لأسباب مختلفة ويمكن ايجاد بدائل اكثر تماثلا مع ثقافتنا؟



 حسب مفاهيم التيار الماركسي- اللينيني الامبريالية هي أعلى مراحل الراسمالية، ولكن بات واضحا قطعيا ان الامبريالية هي مرحلة اخرى في التطور وليست الأخيرة ،ولا يمكن قبول الطرح المتسرع الذي طرح رؤية مبكرة بنيت على ميول عقائدية، وعلى ظواهر مبكرة من تطور المجتمعات الرأسمالية، بان كل  تطور راسمالي هو من حيث الجوهر مرحلة في الطريق للإضمحلال. او الحكم سلفا ، في مرحلة شهدت انتشارا هائلا للفكر الإشتراكي، أحدث تحديات كبيرة للأنظمة الرأسمالية، خاصة بعد نجاح البلاشفة في روسيا، في انجاز ثورة اشتراكية (اوكتوبر 1917) التي اسقطت الثورة البرجوازية ونظامها (شباط 1917) ،أي بعد بضع  أشهر فقط.. مما قد يكون اضاف للرؤية المتسرعة حول وصول  الرأسمالية الى مرحلتها الأخيرة – الإمبريالية؟



 ان التطور في النظام البرجوازي – الرأسمالي  لم يتوقف بعد مرحلة الامبريالية الكلاسيكية. وحتى ما يعرف برأسمالية الدولة الاحتكارية هو تحرك ( تطور جديد) نحو ما يمكن تسميته اليوم برأسمالية مجموعة دول احتكارية متحدة (السوق الأوروبية المشتركة مثلا) ونحن نعيش اليوم مرحلة العولمة التي يصفها البعض بالعولمة الرأسمالية، وهي حقا عولمة رأسمالية في جذورها رغم طابعها الذي استحوذ على معظم سكان كوكبنا الأرضي، وأعطاها طابعا اجتماعيا عاما..



هل هي نهاية المطاف؟



لا أقبل الفكر الذي يقرر سلفا الطابع اللاحق للتطور. الراسمالية أثبتت انها قادرة على التجديد ، وعلى معرفة نقاط ضعفها والمخاطر في طريقها ، والمشاكل الاقتصادية والإجتماعية التي يتعرض لها نظامها. وهي دائما تطور الحلول ، او اطفاء الحرائق قبل ان تضطر الى التراجع واقرار المزيد من الحقوق الاجتماعية لمواطنيها. من هنا مثلا نرى ان كل مفهوم الصراع الطبقي ، لم يعد له (ولم يكن له) ذلك الدور الحاسم الذي طرح في الأدبيات الماركسية الكلاسيكية وما زال بعض منظري وقادة الأحزاب الشيوعية يبنون استراتيجياتهم السياسية والإجتماعية والفكرية على هذه المقولات التي لم تظهر فاعليتها منذ ثورة أكتوبر 1917، وايضا تلك الثورة لم تكن في مضونها الحاسم نتيجة الصراع الطبقي. الراسمالية أفرغت الصراع الطبقي من أهم تناقضاته الجوهرية. وهذا لم يحدث في فراغ، بل نتيجة ابحاث ودراسات شاملة، ونتيجة خطط عمل جديدة حلت مكان اساليب استنفذت ، وأضحت تشكل بؤر للتصادم اذا تواصل التمسك بها. وأيضا بتطوير مفاهيم  الادارة من مستوى الدولة الى مستوى المصنع والمؤسسة. ولا يمكن اغفال ان احتياجات الصناعات الحديثة الى تكنولوجيات بالغة الدقة، حول أجزاء متزايدة من الطبقة العاملة، الى تكنوقراطيين ، ومدراء عمل وانتاج، والى اختلاط اندماجي الغى الكثير من الفروقات في مستوى تعليمهم ومستوى حياتهم  ورفاهيتهم بالمقارنة مع الطبقات البرجوازية برمتها..



ربما لا نبالغ بالقول ان العولمة مرحلة ارقى من مرحلة الإمبريالية . بل هي قفزة رأسمالية الى الأمام. ولا خطأ في تقييمها بمرحلة رأسمالية أرقى، لأن العولمة نتيجة تطور التقنيات والعلوم والانتاج المادي الذي يساهم في تقريب العالم بوسائل تكنولوجية  اصبحت في متناول كل انسان حتى المتدني الثقافة، ولا ارى  تبريرات عقلانية لرفضها والتخلي عنها، او الوهم ان بدائلنا أفضل، حين نعتمد بشكل كامل على منتجات العولمة، والمضحك حين نسخرها لرفض العولمة التي اوجدتها وأغرقت اسواقنا بها.



 الفكر الاشتراكي بجمود عقائدي لتياره المركزي بدأ منذ فجر صعوده على الساحة الدولية ، لم يستطع ان يطرح البدائل ، او يجعل مفاهيمه الأممية ذات مضامين مادية ملموسة ، وليس مجرد شعارات تحلق في الهواء الطلق ولا تجد ارضا تبذر فيها ثمارها.



لا نبرر الإمبريالية كسياسة ونهج حمل معه العنف الدموي والقهر للشعوب،وهل من فتوحات في التاريخ خلت من العنف والدم ، من القمع والاستبداد ، وهل من فتوحات بيضاء وانسانية ؟ ومن يقرر انسانية المحتل؟ فرضه لنفسه وجعل عقليته القانون السائد، ام ابناء البلاد التي اجتاحتها جحافل الفاتحين ؟



هل من احتلال اخضع الآخرين بالعناق والورود ؟ بالأحضان والقبل؟ هل كان احتلالنا للآخرين يختلف عن احتلال الآخرين لنا...؟



تعالوا  نطرح سؤالاً من زاوية أخرى ترتبط بواقع المجتمعات التي عانت من سياسات الاستعمار وعنفه وقهره ودمويته: هل كون الحداثة، والتنوير والعقل العلمي والرقي التكنولوجي، نتاج المجتمعات الغربية المتطورة اقتصاديًا وعلميًا كاف لتبرير رفضنا للحداثة مثلاً، أو لما أنجزته من تنوير وعلوم وتكنولوجيا، والتمسك بواقع اجتماعي مغرق بالماضوية والفقر في كل مرافقه؟!



الم تكن حضارتنا ، رغم عنفنا كمحتلين ، مرغوبة ومطلوبة في كافة انحاء المعمورة؟ بل وتحول ابن رشد وقافلة كبيرة من علماء العرب  الى مصدر الهام غير عادي للتنوير الاوروبي؟



من المذهل ان المجتمعات العربية تكاد تكون خارج التاريخ فيما يحدث في عالمنا من حركة دفع هائلة لا تتوقف.أحد رموز الإصلاح الفكري في التاريخ العربي الحديث، عبد الرحمن الكواكبي يقول في كتابه "طبائع الاستبداد": "الحركة سنة عاملة في الخليقة دائبة بين شخوص (بروز) وهبوط، فالترقي هو الحركة الحيوية، أي حركة الشخوص، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت". ما يجري في مجتمعاتنا بكل الم اقرب الى الحركة نحو الموت...



إذا لم نفهم ان التنوير والعلوم، والتحديث والتكنولوجيا هي حركة نحو الحياة، وإن وصف الحداثة والتنوير بالإمبريالية والصليبية والصهيونية هو نوع من سقوط العقلانية، وهذا الأمر يشكل جريمة بحق تجديد انطلاقة المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية وثقافية، وكل محاولات أسلمة الحداثة، تفرغها من مضمونها ، وهو يقع في باب ضيق الافق والعبثية. إن طرح شعار "الإسلام هو الحل" في المجتمعات العربية والإسلامية، يعطي بلا شك هوية وقيم في دول لم تقدم للمواطن أي من الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي تتلاءم مع عصرنا. كل ما قدمته تلك الدول، أنظمة استبدادية بلا مؤسسات دولة قادرة على العمل والرقابة. قد يكون "الإسلام هو الحل" جاء ليعطي البديل لسقوط التيارات القومية واليسارية التي وعدت بالحرية وسلبتها، وبالديمقراطية وقمعت الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وعاقبت المفكرين وبالرفاه الاجتماعي، ولم تقدم إلا الفقر والإملاق، وبالاشتراكية، وخدمت القطط السمان... بالمقابل نجد أن ما قامت به مؤسسات اجتماعية وصحية وتعليمية إسلامية، حلت مكان مؤسسات الدولة في رعاية الاحتياجات الأساسية للمواطنين... وفي واقع تدفق ملايين سكان الأرياف، للعمل في المدن، لم يجدوا غير المؤسسات الإسلامية، للتوجه إليها ومدهم بالرعاية، وبهوية هامة افتقدوها في إطار أنظمتهم (القومية) الفاسدة والغائبة عن القضايا الملحة لملايين المواطنين... ولكن السؤال الكبير، طرحه أيضًا العديد من الباحثين العرب والغربيين، وهو سؤال هام للغاية، هل شعار "الإسلام هو الحل" قادر على حل مشكلات الظلم الاجتماعي والقمع السياسي، والتخلف الاقتصادي، وتطوير العلوم والتعليم والتقنيات الحديثة، وحل مشكلة الضعف العسكري في مواجهة إسرائيل مثلاً.... وربما إيران مستقبلاً؟ الأجوبة هنا تكاد تكون واضحة. لا توجد حلول دينية (إسلامية، مسيحية أو يهودية أو بوذية أو كونفوشية، لا فرق) لمشاكل التطوير والبناء والتقدم. توجد حلول علمية، خطط مبنية على معطيات بدون شعارات، مهما صيغت بديباجة لغوية... لن تكون قادرة على حل معضلات المجتمعات فقط باستبدال الهوية الوطنية مثلاً بهوية دينية، ومشاكل ذلك في مجتمعات متعددة الانتماءات، ولا ننكر أهمية الهوية الأساسية للإنسان، وهنا سقطت "الأنظمة القومية" ( لم تكن اكثر من عصابات منتفعين وانظمة عائلية وقبلية) نتيجة ممارستها القمعية وفسادها. للأسف هذا الواقع بات واضحًا أنه يتجه نحو المزيد من التأزيم في المجتمعات العربية والإسلامية. إلى جانب التضخم السكاني الكبير، هناك عجز كبير في إيجاد عمل للشباب الذين هم في أوائل العشرينات من أعمارهم. بالمقارنة مع التسعينات من القرن الماضي سيزداد في الدول العربية عدد الباحثين عن العمل بنسب كبيرة جدًا، أبرزها سوريا، قبل الانتفاضة  قدرت ان الزيادة ستكون في السنوات القريبة بمعدل 100% (وهذا يجب ان يكون ضمن فهمنا لدوافع الانتفاضة)، في مصر(قبل الانتفاصة) والجزائر والمغرب الزيادة المتوقعة هي 50%، في تونس(قبل الإنتفاضة) 30%. هذه أرقام رهيبة إذا فهمنا أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تكفي الإشارة أن اقتصاديات هذه الدول تتطور ببطء شديد لا يتلاءم مع الزيادة في عدد طالبي العمل. حسب دراسة اعدتها لجنة اممية (تقارير التنمية العربية) ،يعاني 25 مليون مواطن عربي من البطالة والعالم العربي يحتاج الى انتاج 5 ملايين فرصة عمل جديدة كل سنة ، ولا دلائل تشير الى تخطيط مناسب ، ازمة البطالة تتفاقم ، ويبدو أن الأرقام لا تشمل ملايين كثيرة من النساء والرجال اليائسين من ايجاد فرص عمل، ولا تشمل ملايين المهاجرين، ومنهم العقول العلمية العربية، التي تشكل هجرتها خسائر بمئات مليارات الدولارات للعالم العربي.   معنى ذلك ان العالم العربي مقبل على أزمة اقتصادية واجتماعية مدمرة، وهذا الحال ساد قبل الربيع العربي وبدون أي شك ضمن الواقع البائس الذي قاد الى الانتفاضات العربية.ان وصف ما يجري بمؤامرات استعمارية صهيونية صليبية ، هو الغباء بعينه. وهو تغطية للأنظمة الفاسدة والعاجزة عن اقرار خطط اقتصادية اجتماعية للنهوض بالمجتمعات العربية. اولوياتهم تعزيز سلطتهم وحمايتها، ونهب الثروة الوطنية. الربيع العربي رغم اشكالياته كشف حقائق مذهلة عن النهب الرسمي للثروة الوطنية.



  إن قوى التنوير وانطلاق الفكر الحداثي في أوروبا، شكلت انتصارًا للعقلانية. ومن الخطأ الظن أن المثقفين الأوروبيين، من رجال العلم والأبحاث والاقتصاد والإبداع الأدبي والفني يحملون وزر إمبريالية دولهم. إن استعراض أسماء فلاسفة عصر التنوير والنهضة الأوروبية، ونشاطهم الفكري والاجتماعي والسياسي، وعلى رأسهم جان جاك روسو وفولتير وجون لوك وسبينوزا وكانط وغيرهم ، تثبت أنهم كانوا ألد أعداء استبداد الدولة واستبداد الدين في نفس الوقت، وهي المعادلة التي انطلقت منها دول أوروبا الإمبريالية إلى استبداد الشعوب.

إن رفضنا للحداثة، هو رفض للعقل العلمي والعقل التكنولوجي، ومبادئ التعليم وحقوق المرأة ومساواتها، ومبادئ الديمقراطية، ولكننا نستهلك بدون وعي مستحضرات هذه الحضارة، مثل الإنترنت والتلفزيون ووسائل الاتصالات والنقل الحديثة والتجهيزات المنزلية وغيرها من المواد الاستهلاكية، دون أن نعي حقيقة تحولنا إلى مجتمع استهلاكي ينفي العقل ويحل محله النقل، يرفض الإبداع ويستبدله بالإتباع، يرفض الديمقراطية ليحل مكانها استبداد سياسي وديني والكواكبي يقول: "الاستبداد السياسي ناتج عن الاستبداد الديني" للأسف هذا هو واقع المجتمعات العربية. في مواجهة هذا الواقع نجد مثقفين تبريريين، جبناء يبررون تخلف مجتمعاتهم بخزعبلات علمية وإيمان عجائز وتأويلات تفتقد للمنطق العقلي. المثقفون المتنورون يهجرون على الأغلب أوطانهم، أو يضمن صمتهم في السجون والقبور!! هذا الواقع يولد الاغتراب، والمغترب في مجتمعه يفتقد لدوافع التقدم وإحداث التغيير في واقعه وحياته فهل نشهد انتفاضة للعقل العربي ونحن نحث الخطى في القرن الحادي والعشرين؟!







nabiloudeh@gmail.com