السبت، 26 مايو 2012

ظواهر مقلقة في ثقافتنا


ظواهر مقلقة في ثقافتنا

 







النقد هو الغائب الكبير من أدبنا العربي في اسرائيل. توجد كتابات نقدية، أو تقع عموما في باب النقد. أو تسمى نقدا لأنها أقرب شيء الى أشكال الكتابة النقدية.
                                                            بقلم :نبيل عودة

وسأبدأ بنفسي: اقول بلا تردد ان ما أكتبه من نقد يقع في باب الكتابة الثقافية المتأثرة برؤية فلسفية عامة، بدءا من مراجعة كتب، أو طرح فكرة ثقافية أو قضية فكرية عامة وصولاً الى الفكر السياسي والاجتماعي. وكثيراً ما قيل لي من زملاء أدباء ان مراجعاتي وطروحاتي الفكرية، هي من نوع النقد الثقافي الأقرب للمراجعات الثقافية أو الفكري الصحفي، السهل والممتع وسهل الهضم. وقد اعتبرت هذا التقييم أقصى ما أطمح اليه من كتاباتي الثقافية (النقدية كما تسمى).

لا أدّعي ان النقد غائب تماماً، حقاً لدينا نقاد ونقد أدبي، غير انه لم يشكل تياراً ثقافياً مؤثراً وحاسماً في صيرورة ثقافتنا وتطورها. بل لم يشكل حتى تحدياً أدبياً أمام مبدعينا، أسوة بما يشكله النقد من موقف حاسم في كل ثقافة ذات جذور واجندة ثقافية. وأبرز الدراسات النقدية لا علاقة لها بثقافتنا المحلية رغم أهميتها.

هل في مسيرة ثقافتنا أجندة ثقافية؟

هل ثقافة بلا أجندة يمكن ان تسمو الى ثقافة قادرة على اختراق مجتمعها والتأثير فيه؟

أمامنا تجربة ثقافية نادرة في تجارب الشعوب، تجربتنا الذاتية. في سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي (العشرين) نجحنا بخلق تيار ثقافي مؤثر لدرجة بات الأدب (الشعر أساساً) نجماً في مهرجاناتنا السياسية. وكانت كل ندوة أدبية تعقد تتحول الى مهرجان ثقافي.. كنا نبحث عن الإصدار الجديد لنقرأه قبل الندوة ونشارك في طرح انطباعاتنا. كنا جزءا من حركة ثقافية نشطة. كان للتيار الثقافي بعده الاجتماعي والسياسي المؤثر. أجل شكلت السياسة بسبب واقعنا الخاص مضمونا هاما لتقييم العمل الأدبي، الأخلاقي والتربوي، بل وأكثر، كانت الثقافة سلاحنا السياسي الروحي. لذا ليس بالصدفة ان أبرز حزب في وقته (الشيوعي) تبنّى سياسياً الثقافة والهوية الوطنية الفلسطينية (تحت صيغة طبقية أعتقد انها كانت شكلية.. وما زالت كذلك) وربط حاضر الأقلية الفلسطينية المعزولة والمحاصرة بقوانين عسكرية قمعية، بماضيها الثقافي والتراثي. كان تفكيراً سياسياً خدم التنظيم بقدر أكبر مما خدم الثقافة. ولكنه ساهم بخلق تيار أدبي شيوعي شكلاً وقومي بجذوره الأساسية، احتل الساحة الأدبية خلال فترة طويلة وليس سراً ان كل الذين يُعرفون بـ"شعراء المقاومة" هم أبناء هذا التيار السياسي.

ومع ذلك لا بد من الإشارة الى مميِّزين.

المميز الأول لهذا التيار إيجابي بما شكله من تيار ثقافي تبوأ مكانته الهامة محلياً وعربياً.

والمميز الثاني سلبي ربما بنفس القدر اذ استبعد أسماء هامة لم تستطيع الانخراط في صفوف الشيوعيين لأسباب عديدة، وهذا استثناها من الواجهة الثقافية التي سيطر عليها وسوّقها محلياً وعربياً التنظيم الشيوعي، بإعلامه القوي وشبه الوحيد القائم وقتها، وربما لا أخطئ بالقول انه قمعها شعبياً أيضا بحدِّه من انتشارها عبر تجاهل إعلامه المسيطر لسائر الأسماء التي لا تنتمي سياسياً لتنظيمه..

التنظيم استفاد بتحوله الى قوة ثقافية سائدة ومقررة، وهدفاً أمام كل مثقف اذا أراد الانتشار. ولكني اليوم أرى بالمسألة جانباً مهيناً: الخضوع للتنظيم وقبول رؤيته السياسية او التجاهل والإقصاء. لذلك تطورت ظواهر سلبية مدمّرة لم يكن بقدرة أحد صدّها.

أفرزت هذه السلبيات قيماً مشوًهةً، ونقداً مشوّهاً وثقافةً مشوّهة، ودخلاءَ على الأدب والنقد والسياسة، وعلى النشر المشوه في الصحافة خاصة، والترويج الكاذب ذي الصبغة القبلية. وأكاد أقول ان غياب أقلام واعدة هو نتيجة الفوضى الثقافية، التي بات مروّجوها من نقّاد لا علاقة لهم بالأدب، او بعض من صمتوا دهراً ونطقوا كفراً أدبياً، أو كتّابِ نثرٍ وشعرٍ لا شيء من الجمالية الأدبية في نصوصهم، يصرّون ان يقتحموا عالم الإبداع ظانّين ان الموضوع لغوي إنشائي فقط، ويجدون مع الأسف من يستجيب لنزواتهم.. خاصة مع تلاشي سيطرة تيار سياسي محدد على النشر، وهو بحدّ ذاته أمر إيجابي ولكنه انعكس بشكل سلبي مطلق على ثقافتنا.

هذا أوصلنا الى حالتنا المضحكة المبكية اليوم. فذاك يلوح بعشرين كتاباً وصلوه وانه يجمع عدته ليكتب "مراجعات نقدية" لكل ما وصله. من النقد الأول سيقرر (أجل نحفظ الدرس وأستطيع ان أكتب مقدمة نقده قبل ان ينشره وربما ان أشير الى ما هو أكثر من المقدمة) اننا أمام شاعر او كاتب قلَّ مثيلُه في الشعر أو النثر.. ولن يتردّد في استعمال اصطلاحات مثل "حداثي" و "مجدّد" و "عالمي"... وآخر يخرج من مفكرته اصطلاحات نقدية أكاديمية تطورت في ظل ثقافة وحضارة مختلفة، وفي إطار فلسفات اجتماعية أحدثت انقلابات اجتماعية وفكرية راديكالية في مجتمعاتها أرى استحالة وعبثية نسخها وتطبيقها على ثقافتنا.

تصفحتُ العديد من الإصدارات الجديدة، لم أجد ما يشجّعني على قراءة كاملة لأكثريتها. وبعضها لم أفهم علاقته بالإبداع الأدبي.. الا بالتسمية التي تحملها الأغلفة. حقاً هناك مواهب جيدة، وهناك كتابات جيدة، ولكنها تغرق في بحر من الكتابات غير الناضجة.

لا أكتب لأقلل من أهمية المراجعات، حتى للإصدارات التي لم ترق الى مستوى الشعر او القصة. ولكني أتوجه برجاء، لنقّاد هذا الأدب (أو دعاة الترويج)، لا تبيعوا أوهاماً، اذا كنتم حقاً تعتبرون أن نقدكم يقع في باب الثقافة.. احترموا صاحب العمل الذي يريد توجيهاً صحيحاً وصريحاً، حتى لو كان مؤلماً، لأنه قد يكون موهوباً حقاً، ونقدكم، اذا لم يلتزم منطق الصدق، يجعل البعض على قناعة انهم أصبحوا أصحاب مدارس أدبية، وان ما يخرج من مداد أقلامهم، بصالحه وطالحه، هو الإبداع بجوهره.

يبدو لي ان مبدعينا المبشرين بالخير كما أرجو، يطلبون العلالي من اللحظة الأولى، ووقعوا على ممارسي نقد فاقدين لأية رؤية نقدية او ثقافية او جمالية بديهية.

هذه كانت رغبتي أيضا مع أول قصة نشرتها وانا في جيل الخامسة عشر، وظلت هذه الرغبة ترافقني حتى جيل أستطيع ان أسميه جيل الاكتمال النسبي للوعي الثقافي. وأقول النسبي لأن الوعي لا يكتمل ابدا انما يزداد إثراؤه بالتجارب الإبداعية واكتساب المعارف الجديدة وتوسع عالم الأديب الثقافي والفكري وتجاربه الحياتية.

بعض هذا النقد الذي أحذر من مخاطره، يذكّرني بحكاية سمعتها أثناء دراستي في الاتحاد السوفييتي السابق. ويقال ان ستالين نفسه هو أول من رواها، تهكّماً على بيريا الرهيب، قائد المخابرات السوفييتية في وقته. تقول الحكاية:

كان ستالين مولعا بتدخين البايب. فقد ستالين البايب المفضل لديه.. كان ستالين على ثقة ان البايب سُرق منه في الكرملين. وعليه، اللص لا بد ان يكون من الحاشية المقربة. أعطى علماً بالأمر لقائد المخابرات المشهور وقتها بيريا الرهيب، وطلب غاضباً العثور على البايب بأي ثمن. بيريا الرهيب بدأ بالتحقيق والاعتقالات والتعذيب... في هذا الوقت وجدت المساعِدة بايب ستالين تحت سريره، وأعلمت الرفيق ستالين انها وجدت البايب الضائع.. ستالين سارع بالاتصال بالرفيق الرهيب بيريا ليعلمه ان مسألة البايب حلّت فقد وجده.. بيريا لم يصدق، قال: كيف يمكن ان تجده يا رفيق ستالين ولدي ستة معتقلين من قيادة الحزب اعترفوا انهم سرقوا البايب المفضل لديك؟!

ايها الرفيق الناقد بيريا، رحمة بأدبنا لا تستعمل أساليب إقناع حتى لو كانت بأسلوب رقيق وقمّة في اللطافة والتبجيل والتشجيع وحسن النية!!

بالطبع أتمنى للأدباء العرب الفلسطينيين في إسرائيل المزيد من الإبداع والرقي الثقافي. ولكن الامنيات لوحدها لا تصنع أدبا.

تعالوا نفحص جوانب أخرى لها صلة رحم بالنقد.

هل يملك نقدنا المحلي السائد، وعياً جمالياً (استيطيقا – علم الجمال)؟ وهل هو قادر على ايصاله للمتلقي؟!

ما يقلقني ان وعينا الجمالي الأدبي لم يتبلور بعد بصفته ركناً ثقافياً وفكرياً مقرراً وحاسماً في تقييم الإبداع الأدبي.

في مرحلة سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي كنا متعطشين للثقافة، اولاً كضرورة لمجتمع بشري معاصر، وثانياً كرد فعل مضاد (كما في الفيزياء) على الحصار الثقافي الصهيوني.

الثقافة أعطتنا أجنحة لنتواصل مع تاريخنا وهويتنا القومية والحضارية. أعطتنا دفقاً من المعنويات لنتحدّى الواقع السياسي الرهيب الذي انكشف أمامنا عقب نكبتنا وبقائنا في وطننا، جزءاً ممزّقاً من شعب. بعضنا بلا هويات يهددهم خطر القذف وراء الحدود، بعضنا حاضر غائب حسب قوانين قراقوشية تحكمت بمصيرنا، الأرض تصادر، قرى تهجر وتهدم حتى بعد إقامة الدولة (اقرث وبرعم، خرجوا باتفاق مع الجيش ورغم قرار المحكمة العليا بحقهم بالعودة الا ان الحكومة تحايلت على القرار بقوانين مختلفة وجرى هدم القريتين بالقصف من الجو)... ولاجئون على بعد مسافة قصيرة من قراهم واراضيهم ويمنعون من الاقتراب منها (لاجئو صفورية يسكنون حياً في الناصرة يطل على أراضيهم المصادرة وبيوتهم المهدمة وبنيت على أراضيهم بلدة يهودية). ذاكرة شعب كامل تهدم. بقايا شعب ممزق ومهزوم ويتلمس الطريق في واقع غريب عنه بكل ابعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. لم تكن فترة لالتقاط الأنفاس. كل شيء يسير بسرعة غير معتادة. خطط للتجهيل بلغتنا وهويتنا، أسماء بلداتنا وملاعب صبانا تعبرن (تستبدل بأسماء عبرية)، من أكثرية في وطننا تحولنا الى أقلية ممزقة ومضطهدة، نفتقد للمثقفين، المتعلمون قلة، نفتقد للبنى التحتية التعليمية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية. من مزارعين تحولنا بفقدان الأرض الى عمال أجرة في المشاريع اليهودية، قرانا ومدننا تحولت الى فنادق تأوينا بعد يوم العمل. المعلمون يلاحَقون ويفصَلون إرهاباً وقمعاً لجعلهم خصياناً ينفذون أوامر الحكم العسكري في تجهيل الأجيال الشابة بلغتهم وتاريخهم. شعب بلا مؤسسات، القيادات التقليدية هربت، المخاتير بأكثريتهم الساحقة تحولوا الى زلم للحكم العسكري الاسرائيلي، وبعضهم كانوا من "جيش الظلال" الصهيوني قبل نكبة شعبنا، الذين سمسروا لبيع الأرض للحركة الصهيونية، وباعوا شعبهم لقمة سائغة لمصير رهيب ما زال يدفع بالدم ثمن مأساته حتى اليوم.

في هذه الظلمة والضياع برز الحزب الشيوعي بقيادته الطليعية التاريخية. مجموعة من المثقفين الوطنيين الأبطال حقا بكل المعايير. من اليوم الأول قرروا التحدي. دفعوا ثمناً رهيباً، ولكن طريقهم أثمرت.. الثمن كان ضياع حيوات أجيال، حتى لا يضيع شعبنا ويفولذ تمسكه بوطنه وحقوقه. وكان تطوير الأدب أحدى المهمات الاستراتيجية الهامة للطليعة الشيوعية. ولكن كما قلت كان لذلك جانبان، إيجابي وسلبي.. الإيجابي رغم أهميته العظيمة يتلاشى ونحصد اليوم سلبياته..

ما يقلقني ان ذوقنا الجمالي لا يتبلور من خلال الفوضى الأدبية وكتبة المدائح، وبتنا عاجزين عن استيعاب الجمالي في الإبداع والتلقي.

وربما نتساءل ما هي مركبات هذا الذوق الجمالي الجديد؟!

ان جلّ ما يغيب عن الناقد هو المستويات التعبيرية للإبداع.

عندما يصعب على الناقد ان يستوعب الوعي الجمالي، بصفته الوعي الذي يتناول الظواهر والأشياء من خلال سماتها الحسّية، وقدرتها في التأثير على المتلقي، عند ذلك يغيب تماما أهم ما في النقد وأعني: المضمون الجوهري للمقياس الجمالي في الابداع الأدبي.

آمل ان لا تكون كلماتي معقدة، لذا أسمح لنفسي ان اقول انه لا يوجد في أدبنا الا القليل القليل من النقد الأدبي، وأكثريته لم يتناول أدبنا.

النقد يحتاج الى فكر الى فلسفة، وألاحظ ان أكثرية كتاب ما يعرف ضمنا بالنقد يفتقدون للفكر الثقافي ولوعي فلسفي، بل ويفتقدون لحسٍّ ثقافي ذوقي، وكتاباتهم بلا فكرة نقدية محددة.

بالطبع لدينا معوقات تتعلق بتركيبة مجتمعنا، الحياة الثقافية النشطة والفعالة هي سمة للمجتمعات المدنية، ونحن للأسف الشديد نحقق تراجعاً في مدنية مجتمعنا. نعود الى تجزئتنا العائلية وتباعدنا الطائفي، حتى فكرنا القومي يتحول الى فكر طائفي وعائلي منغلق. ومنطقنا السياسي ينحرف نحو العائلية السياسية والطائفية السياسية. كنا نظن انها لم تعد تشكل عائقاً أمام مجتمعنا العربي في إسرائيل، الذي تحول الى اقتصاد إنتاجي حديث، وعلاقات إنتاجية حديثة، وما فرضه ذلك من أسلوب حياة مدني. حقاً التطور كان قسرياً وسطحياً، أي لم ينجح بتغيير حاسم للعلاقات الاجتماعية القديمة، علاقات المجتمع القروي الصغير المتماسك عائلياً، واستبدالها بعلاقات مجتمع مدني منفتح ومتحرر من الروابط القروية، تحكمه قيم مدينية لا سابقة لشعبنا بها بهذه الكثافة وفرض القطيعة مع الواقع الذي تشكلت مفاهيمنا في اطاره، أي بدل قيم المجتمع الفلاحي البسيط بدأت تسود قيمُ مجتمعٍ برجوازي اوروبي، كولونيالي في نهجه مع الأقلية العربية الباقية في وطنها رغماً عن مشاريعه التهجيرية، الى جانب الحقيقة غير القابلة للجدل، بأن نكبتنا هي الوجه الآخر للواقع المتغير الذي يعصف بنا.

أدّعي اننا لم نستعب بعد هذه المتغيرات العاصفة في ثقافتنا. تعبيرنا الوطني لم يرقَ الى مستوى ابسيميتولوجي، بمفهوم المعرفة الحقة العلمية لجذور التحول التي تعصف بماضينا كله وتفرض علينا تحولات سريعة تتناقض مع مستوى تطورنا وعلاقاتنا القديمة.

يبدو ان هذا الواقع يحتاج الى دراسة الجوانب النفسية الاجتماعية وتأثيراتها الثقافية على المجتمع العربي داخل اسرائيل وانعكاساتها السلبية والايجابية على مسيرته الثقافية والسياسية لشدة الاندماج في واقعنا بينهما!!

|ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نبيل عودة – nabiloudeh@gmail.com


النظام والشعب


النظام والشعب

(زوجــــــان نموذجيــــان)

 قصة: نبيل عودة



 يتميز أستاذ الفلسفة بهدوء غير عادي، يظنه المرء غارقا في هموم الدنيا. هذا كان انطباعنا الأول

 عنه. ولكن بعد دقائق من بداية المحاضرة الأولى، جذبنا بروحه المرحة، وشغفه على شرح نظريات

 مواضيعنا المعقدة، بقصص طريفة أحيانا، ويحثنا أن نحاول تصنيف  الطرف التي نسمعها من

الناس  حسب موضوعها الفلسفي.


ومن أقواله التي يرددها، أن الطرف هي حكمة حياة، فكروا بما تخفيه وليس بما تظهره. بالدافع لصياغتها، وليس بشكل وصولها إلينا.

وكان يفاجئنا أحيانا أن طرفنا التي تفجر الخواصر من الضحك، يستمع إليها بانتباه شديد، ولا ننجح بزحزحة ابتسامته ، بل نراه يغرق في التفكير، وبعد برهة تتسع ابتسامته، ويعبر عن إعجابه بالطرفة أو القصة، ويبدأ بتأويلها حسب موضوعها الفلسفي.

سألته مرة متجرئا، إلا يقود ذلك إلى جعل الفلسفة، هذا الموضوع الفكري الراقي، نوعا من الإسفاف، يهبط بقيمتها العقلية، بين سائر المواضيع، إذا بالغنا برواية الطُرف وتأويلها الفلسفي؟

أجابني بجدية مطلقة:" إن بناء الطرفة للوصول إلى هدف معين، يشبه بناء مفهوم فلسفي لتفسير وضع معين، وهذا يعني أن الطرفة والمفهوم الفلسفي متشابهان بالدوافع. حتى الطرف التي تبدو سخيفة، لها دوافع.. لذلك ما تسميه الفلسفة "رؤى وتبصر"، يظنه راوي الطرف "فن الإضحاك". إن الطرفة هي فن تخطيط الحدث، والقادرين على هذا الفعل، يملكون رؤية واسعة وفهما عميقا للإنسان والمجتمع والحياة.  لا عيب أن نتعلم منهم، أن نستعمل طرفهم لتفسير مفاهيم فلسفية عديدة. ولكن إياك وان تظن أن الفلسفة وجدت لتضحك الناس. بل وجدت لتنشط العقل، وتعمق الوعي، وتزيد المعارف وتخلق الجديد."

وأضاف بعد فترة توقف: ما رأيكم أن نفسر الثورات في العالم العربي، بقصة مناسبة؟ هل تظنون أن هذا مستحيل؟

فكروا بالموضوع ، اكتبوا ونلتقي في الدرس القادم.

ضاع يوم العطلة وأنا احك دماغي بلا فائدة، كنت أقول لنفسي الموضوع سهل، النظام العربي فاسد ولم يعد يستطيع الحكم، والشعب اجتاز خوفه ولم يعد يقبل باستمرار النظام. إذن القصة هي علاقة بين نظام حكم وشعب. أصل إلى هنا ولا اعرف كيف أواصل، كيف اركب حكاية أو أتذكر حكاية يمكن أن تشبه ما جري في تونس ومصر وليبيا واليمن وما يجري اليوم في سوريا... حتى جدتي قلقت من قلقي، وسمعتها تقول لوالدي أن ينتبه لي، لأن حالتي لا تعجبها. سألني والدي: "ما حكايتك؟" بعد تردد شرحت له الوظيفة التي كلفني بها أستاذ الفلسفة. ضحك وقال: "بسيطة"، والتفت إلى جدتي ضاحكا: "انه يريد سماع حكاية عبد الباري وزوجته."

من هو عبد الباري هذا؟ كنت مرهقا من الوظيفة وبت على يقين ان فشلي لا مفر منه.ولكن ما روته جدتي أيقظني.. وطلبت منها ان تروي حكايتها مرة اخرى.

استمعت للحكاية مسجلا رؤوس أقلام، اعتراني النشاط والتوتر. في تلك الليلة غادرني النوم تماما، سهرت حتى الصباح وأنا اكتب وأعيد الكتابة، أمزق واكتب من جديد، وكانت هذه الحكاية عن "النظام والشعب" .. عبد الباري وزوجته ، الزوجان النموذجيان في عالم العرب الذي حان موعد دفنه!!

************

عبد الباري تجاوز التسعين عاماً، وأضحت سيرته نموذجاً للبيت السعيد. تزوج في العشرين من عمره، وها قد مضى على زواجه سبعة عقود كاملة، دون أن يسمع إنس أو جن عن مشكلة بينه وبين زوجته حتى اشتهرت زوجته بالبلد والبلدات المجاورة بصفة "الزوجة الفاضلة الصموتة"، التي يضرب بها المثل ، وتقدم سيرتها وسيرة زوجها كنموذج للبيت السعيد للذين مقدمين على الزواج، وللأزواج المليئة حياتهم بالخلافات والمشاكل كي يحتذوا بهما ، وخاصة يجري التشديد على الزوجات اللواتي يُتهمن دائما بخلق المشاكل، من طول ألسنتهن أو قلة إيمانهن كما يقول شيخ البلد الجليل ، حتى بدون سماع رواياتهن ،والبعض يقول إن "المرأة يزداد وزنها عشرة كيلوغرامات كاملة بعد كل طوشة" ، والقانون غير المكتوب في بلدنا ، أن  الزوج دائما هو العاقل وهو صاحب القول الفصل وكأنه رئيس جمهورية عربية.. رواية الزوج مقررة في بلدنا، حتى لو كان مخبولا ولا يعرف تركيب جملتين مفيدتين. وها هي زوجة عبد الباري نموذجا لكن يا نساء البلد، عرفت قدرها ولم تتجاوز حدودها... فاحترمها زوجها وأجلها وكأنها كنز ذهب وجواهر !!

ويقول الشيخ في كل محضر:" زوجة عبد الباري تعرف واجب بيتها واحتياجات زوجها، لا تكثر من الكلام والمماحكة والنق على رأس زلمتها، ولا يهمها إلا سعادة بعلها وبيتها، هذا هو نموذج المرأة الصالحة كاملة العقل والدين".

 لم تكن تعرف البلد الشيء الكثير عن عبد الباري وزوجته، ونصف ما يقال عنهما لا طريقة لإثباته، ولكنه حقا لا يستحق الإثبات لأنه خلو من أشياء مثيرة تشد السامعين. مثلا كلُ ما يعرف عن تلك الزوجة الصالحة ان من عادتها إذا تجادلت مع شخص ويغضبها أن تقول بكل هدوء:

-        أقول لك للمرة الأولى... كذا وكيت.

وعدا ذلك لا يعرف عنها سلاطة اللسان أو المشاكسة أو الصراخ أو التدخل بشؤون نساء البلد ومشاكل بيوتها.

حقا كانت تلك جملتها المشهورة، والتي قليلا ما تسمع ، بسبب حياة العزلة التي تعيشها هي وزوجها بوفاق وحب لا يتعثر، ولكن المعلومات القليلة الواردة من عزلة هذا البيت السعيد، تقول أن لفظها لتلك الجملة ، يجعل زوجها عبد الباري يقفز فورا بتوتر ظاهر ، كأن لغم انفجر به، مسارعا ليسد الطريق على أي خلاف، بين زوجته ومن أسمعته تلك الجملة، مؤكداً أن زوجته على حق كامل، لا تتصرف إلا بالحق وأن زوجته امرأة ولا كل النساء، وأن قلبه يؤلمه إذا اضطرت لإعادة جملتها المشهورة بصيغة:

" أقول للمرة الثانية" مثلا، فهي زوجة لا تعرف اللف والدوران، واستقامتها، كما يقول عبد الباري تفوق الوصف، والذي لا يرضى بكلامه، "الله وعلي معه.. ليبتعد عن بيتنا".

 ترى أي نوع من النساء هي؟ وهل حقا خلق الله امرأة كاملة العقل والدين كما يقول عبد الباري، مستغلا كلام الشيخ في الإشادة بزوجته ؟ ولماذا لم يخلق الله غيرها بهذه الصفات التي تشبه الحلم لكل رجل ؟

عبد الباري من شدة حبه لزوجته وغيرته على صوتها، لا يريد أن يسمع أصدق النساء تعيد قولها مرة ثانية، ويقول لمن حوله "الويل لنا من المرة الثانية، هذه الزوجة يجب أن تكون كلمتها نافذة من أول مرة".. وكان يشدد عبد الباري على قوله بطريقة تبدو غريبة بعض الشيء، خاصة حين تكون زوجته على خطأ مبين لا تبرير منطقي له... ولا يتردد بقطع العلاقة مع أقرب الناس صونا لكرامة زوجته وكلمتها حتى لو كانت على خطأ، لدرجة أن البعض سخر من "الحب الذي يجعل الرجل مركوبا من زوجته مثل الحمار".. ولكن تأنيب الشيخ للمتطاولين، أخرس الألسن.

عبد الباري وزوجته يسكنان على أطراف البلد، فوق تله تشرف على بضع قراريط من الأرض، يشتغل عبد الباري من الفجر حتى غياب الشمس في رعاية شؤون مزرعته الصغيرة.. يحرثها يزرعها ويربي فيها الدجاج وبعض الخراف البلدية، ورأسين بقر... ويكاد لا يخرج من مملكته، إلا للسوق أيام الاثنين ليبيع بعض ما رزقه الله به ويشتري ما يلزم بيته، ولم تكن زوجته ترافقه ، بل تكاد لا تغادر البيت والأرض، وفيما عدا ذلك،  يبقى ملتصقاً بزوجته وأولاده، ولا ينتفض بشكل غريب إلا إذا قالت زوجته الفاضلة لأحد زوار المزرعة الصغيرة، أو حتى لقريب يزورهما واختلفا على موضوع، أو لابن عصى أمرها..

-        أقول لك للمرة الأولى..

هذا الأمر لاحظه كل من كان بصلة قرابة أو بهدف تجاري مع عبد الباري وزوجته، ولكن  أقاويل غير مؤكدة تشكك أن في الأمر سراً لا تفسير له، وشيخ البلد يقول "اتركوا الناس في همومهم، هذا بيت صالح، لا تتحرشوا في أسرار البيوت ، ولا تفسدوا ما بين الصالحين". ولكن البلد، المليئة بالمشاكل بين المتزوجين، والأقارب والأصحاب، حيرها أمر عظيم: كيف يمكن لزوجان مضى على زواجهما ثلاثة أرباع القرن، لم يسمع أحد عن خلاف أو مشكلة بينهما؟؟ هل هم ملائكة؟؟

 لم يتجرأ أحد أن يفاتح بالموضوع عبد الباري، الذي كان ينتفض غضباً للتدخل في شؤونه الخاصة، ويسارع بالابتعاد عن السائل والسائلين، وكأنهم مصابون بالطاعون القاتل. والحق يقال إن سيرته حسنة، يبتعد عن المشاكل، ويعيش بشبه انعزال منذ تزوج.

ولكن المقدر قد وقع ، وانتقلت الزوجة إلى رحمة ربها نظيفة من كل ذنب، رغم أنها كانت تبدو بنت معيشة وزوجها الذي يدب على عصاتين قريب من حافة قبره: "إن لله في قراراته شؤون لا تخص العباد" صدر حكم الشيخ لمنع التساؤلات.

 في أيام العزاء لاحظت البلد أن عبد الباري العجوز الذي قارب التسعين استعاد صحته، وظهرت الحيوية على وجهه، بل صار يضحك، ويغمز على زوجته، ويتحدث بطريقة لم يعهدوها به، فهل هي صدمة الفراق أفقدته عقله أم الشيخوخة هبت رياحها دفعة واحدة فأفقدته وعيه ؟  بل ويتندر أهل البلد انه صار يلبي دعوات الزيارة، ويدعو الناس لزيارته، ولا يبخل بمد الموائد التي لم يشاهدها أحد سابقاً أيام زوجته، ويبدو أن أولاده أكثر حرية وسعادة، أمر غريب يلفت الانتباه. أين اختفى الحزن على فراق أفضل الزوجات وأكثرهن إخلاصا لزوجها وبيتها؟

في فجر أحد الأيام أنتشر خبر يقول أن عبد الباري أصيب بتوعك صحي صعب، ويبدو أنه يودع هذه الحياة. سارع الشيخ لزيارته، وفي ذهنه أن يفهم سر هذا التغيير، وكيف صمد على وفاق مع أم الأولاد سبعة عقود كاملة، حتى صار يضرب ببيته المثل، عن البيت السعيد، والزوجان النموذجيان اللذان لم يخلف بينهما شيء على الإطلاق."هكذا يكون النظام" قرر شيخ البلد.

 كان عبد الباري يتنفس بصعوبة، وأولاده وأحفاده حوله، وبعد أن ألقى الشيخ التحية وقرأ الفاتحة فوق رأسه وتمنى له حسن الختام، سأله:

-        البلد كلها تريد أن تعرف كيف يمكن بناء علاقات زوجية لفترة سبعة عقود بدون خلاف بل بوفاق كامل لا نعرف له حالة في عالمنا الا بين المواطنين العرب وانظمتهم ؟! أعطنا ما نصلح به بيوت العباد المتنازعين والمتقاتلين حتى على كلمة.

 بعد أن تنهد عبد الباري بعمق، محاولاً أن يأخذ نفساً طويلاً يعينه على حديثه، إلا أنه ظل يلهث، ومن بين لهثه وأخرى وبتقطع في السرد، شرح سر هذا البيت الذي يضرب المثل بسعادته ووفاقه، قال:

-        يا شيخنا الجليل، المسألة بسيطة، عندما تزوجنا لم تكن سيارات، عدنا بعربة يجرها حمار إلى بيتنا، والطريق وعرة كما تعلم وكلها صعود مرهق، مما أرهق الحمار، فوقع أرضاً، وعبثاً حاولت أن أنهره ليواصل، وزوجتي لم تصبر، نزلت من العربة، وأمسكت الحمار من أذنيه ، نظرت في عينيه وقالت له :"أقول لك للمرة الأولى، قم وتحرك" وما هي إلا لحظات، حتى قام أبو صابر وواصل جرنا بالعربة نحو البيت، بعد مسافة ما كبع الحمار مرة أخرى، ففتحت فمي لأنهره، فأسكتتني بيدها، نزلت وأمسكت الحمار من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: " أقول لك للمرة الثانية قم وتحرك"، وكما بالمرة الأولى، أنتفض أبو صابر وعاد يجرنا بتثاقل واضح وإرهاق كبير نحو البيت، ولكن وعورة الطريق أسقطته أرضاً مرة أخرى، وكالمرة الأولى والثانية، نزلت عروستي وأمسكته من أذنيه ونظرت في عينيه وقالت له: " أقول لك للمرة الثالثة ولن تكون مرة رابعة، قم وتحرك" مضت لحظات والحمار المسكين غير قادر على الحركة، فإذا هي تخرج مسدساً من حقيبة ملابسها، وبلا مقدمات أطلقت رصاصة على رأس الحمار، ومن يومها لم أضطرها لتقول لأحد ما، أقول لك للمرة الثانية ، المرة الأولى تكفي!!



nabiloudeh@gmail.com

لم يهتف باخلاص...!!



نبيل عودة



بما أن أبو صالح من شخصيات البرلمان السوري البارزين، والذي لا يعرف تاريخ التصاقه بكرسي البرلمان، الأمر الذي يشير إلى أن النظام راضي عنه ولا تراقبه المخابرات العامة ولا المخابرات الخاصة ولا مخابرات الشرطة، ولا مخابرات الجيش ولا مخابرات الأمن العام ولا مخابرات مقاومة الشغب ولا مخابرات الثقافة والانترنت، ولا مخابرات وزارة الداخلية، ولا مخابرات وزارة الخارجية، ولا مخابرات فحص نظرات الناس وتأوهاتها، خوفا أن تكون لغة العيون والزفير الطويل من صف المعارضة المتآمرة على النظام. وهناك حسب العارفين، أجهزة أمنية لا تُعرف إلا برموز لاتينية من الصعب إحصائها.

رغم أن بعض المتآمرين الدخلاء عملاء الصهيونية والاستعمار، يعتدون على الأهالي فيقوم الجيش السوري ألبعثي، بما سيقوم به في المستقبل القريب، إن شاء الله، في الجولان المحتل، بتصفيتهم بالقصف العنيف، بكل أسلحته الثقيلة والخفيفة، مقدما صورة عما سيواجهه بنو صهيون في الجولان السوري قريبا جدا جدا. وربما في بر الشام أيضا، فلسطين سابقا...

والجيش لا يقصف المدن السورية وبيوت المواطنين إلا بطلب من الأهالي المتضررين من المتآمرين عملاء الاستعمار، ومن شدة إخلاصهم لرئيس النظام وأبناء حمولته وشبيحته، وأخيه ماهر ملك الغابة، لدرجة أنهم مستعدون للتضحية بحياتهم أيضا في سبيل تمكين النظام من قتل الأعداء، بناء على مقولة شمشون الجبار "علي وعلى أعدائي يا رب "، وهي حمية وطنية نادرة في عالم العرب، ولكنه البعث الذي يبعث الشعب إلى جنان الخلد.

صحيح أن أبو صالح طعن في السن، ولكن البعثيين دائمين أبد الدهر شبابا وفتوة،وأبو صالح يعرف انه جُبل أيضا من طينة خاصة، طينة بعثية لا يحظى بها إلا المخلصون. كان الأشد تصفيقا، منذ زاول العمل البرلماني، معبرا بذلك عن موقف برلماني ديمقراطي مسئول بدعم النظام الوطني الذي يحفظه سالما غانما ونموذجا حيا للبرلماني العربي الأصيل.

ولكن أبو صالح بعد فقدان زوجته الخامسة، قرر أن يتزوج من السادسة، وتلقى دعما من النظام الذي لا يتخلى عن أبنائه قيمته ألف دولار. وقد اختار له النظام شبيهة بثينة ملكة شارع النظام بلا منازع، ولكن بجيل لم يتجاوز العشرين.

رغم أن الدولة مشغولة بالدفاع عن نفسها، والشعب يتشدد بطلب تدخل الجيش ليقصف الصالح والطالح في تعبير وطني نادر. إلا أن أبو صالح لم تزبط معه الأمور في سرير الزوجة الصبية.فلجأ إلى منظري الحزب وقادته البواسل خوفا من أن يكون السبب مؤامرة صهيونية استعمارية.

طلب مقابلة الرئيس بصفته زعيم حزبه قبل أن يكون زعيم دولته، لأن الحزب أهم من الدولة وأهم من الشعب. وبما انه برلماني مخضرم ومؤيد متحمس، حدد له الزعيم موعدا من منطلق أن أبو صالح شخصية نموذجية من شخصيات النظام. ولا يفوت فرصة دون أن يقوم بخدمة في الكشف عن العملاء والدخلاء والصهاينة المتسللين إلى الحزب والسلطة.والسجلات تقول انه الأشد تصفيقا بين البرلمانيين العرب، وعليه رشح لنيل جائزة الأسد الوطنية من الدرجة الممتازة..

قال أبو صالح للرئيس العظيم: تزوجت يا سيدي من صبية ناضرة تحبني وأحبها، وقد اختارها لي الحزب من بين صفوفه. ومع ذلك لم أنجح بإيصالها إلى قمة اللذة، فتكاثرت شكواها، وهذا الأمر يثقل على حياتي معها، وأخاف أن يضللها المستعمرين وأذنابهم الصهاينة، فما العمل؟

 قال زعيمه بشار بعد تفكير وتحليل وحسابات محلية وعربية ودولية:بما أن الهدف الأسمى من زواجك خلق جيل بعثي يواصل درب الأمجاد، عليك أيها الرفيق عضو البرلمان، باستئجار شاب بعثي، يقف فوق سريركما ومعه فوطة يلوح بها حين تعاشر زوجتك البعثية الناضرة.. وعندها لا بد أن يحصل ما ترجوه ويبعث الله الحياة في الآلة الميتة.

وهذا ما كان. استأجر العجوز أبو صالح شابا قوي العضلات،اختاره من شبيحة النظام البواسل، ووقف يلوح، فوق سرير الزوجين بفوطته، حسب أوامر الحزب وتعليماته. ولكن الزوجة لم تتغير حالها وازدادت شكواها..

عاد أبو صالح إلى زعيمه شاكيا باكيا.. التلويح بالفوطة لم يساعد على تغيير الحال. قال الرئيس الزعيم بعد تفكير بمدى عمق المؤامرة الصهيونية والاستعمارية الدولية: وهل كان الشاب يهتف بشعارات الحزب، وتمجيد قادته أثناء التلويح بالفوطة؟

- لا لم يفعل ذلك. أجاب أبو صالح.

- إذن ابحث عن شبيح جهوري الصوت وقوي العضلات ليلوح بدل الفوطة بعلم النظام ويهتف بشعارات البعث: وحدة حرية اشتراكية، وبحياة الحزب وقادته، وستنحل المشكلة.

وهذا ما نفذه أبو صالح، بحث عن شبيح صاحب صوت جهوري وقوي العضلات، ليلوح بعلم الحزب ويردد شعاراته وتمجيد قادته حين يدخل السرير مع زوجته الناضرة.

ولكن حتى علم الحزب وترديد شعاراته لم يغير حال العجوز عضو البرلمان وابن النظام الرفيق أبو صالح، فازداد هما وحزنا وألما،وشاعرا ان اليهود دمروا مفاعله الذري، وعاد باكيا لزعيمه لا يقوى على الوقوف من شدة مصيبته مناشدا حلا لمشكلته مع زوجته الناضرة.

قال له زعيم حزبه: لا تجزع، لكل مشكلة حل. لا بد من تجارب عديدة أولا، حتى نصل إلى إستراتيجية وتكتيك صحيحين.. وعندها نعرف الداء ونجد الدواء. أعطنا أسبوعا لبحث مشكلتك في الهيئات العليا للدولة والحزب.

بعد أيام عاد إلى زعيمه ليعرف نتائج البحث في الهيئات العليا.

قال له زعيمه: بحثنا موضوعك في القيادة العليا،وهيئة أركان الجيش، واتفقنا انه لا بد الآن من تغيير الأدوار. الآن الشبيح ينام مع الزوجة في السرير، وأنت تقف فوق رأسهما ملوحا بالعلم، وهاتفا بحياة الحزب وقادته وجيشه العظيم الذي يحمي الوطن ويرعب الصهيونية العالمية والاستعمار الدولي، عندها من المؤكد أن يتغير الحال..

ونفذ أبو صالح أوامر الحزب وهيئاته.

 وقف أبو صالح كل الليل، رغم انه لم يعتاد على الوقوف إلا للتصفيق للزعيم، ملوحا بالعلم، وهاتفا بحياة الحزب وقادته وداعيا لسقوط الصهيونية والاستعمار المتآمر على سوريا البعث،حتى بح صوته، ولكنه واصل الهتاف والتلويح بالعلم فوق رأسي الشبيح، قوي العضلات، وزوجته الصبية الناضرة، التي دبت فيها الحياة، وبدأت تتأوه وتتلوى لذة وانبساطا.. فازداد تلويح أبا صالح بالعلم وهو في قمة توتره وهياجه!. وعبثا حاول أن يجعل صوته أقوى بعد أن أنهكه الهتاف بحياة الحزب وزعمائه، ولكنه ضبط أعصابه نزولا عند أوامر قائد دولته العظيم. وعندما انتهى الشاب من واجبه، نظر إليه أبو صالح شذرا وصرخ به: يا ابن القحبة، أنت لم تلوح بالعلم بشكل صحيح،ولم تهتف بإخلاص بحياة الحزب وقادته، كان يجب أن تلوح بهذا الشكل،وتهتف مثلي.. بقوة، هكذا.....!!

ولكن صوته قد بح وبالكاد سُمع!!

nabiloudeh@gmail.com