السبت، 15 سبتمبر 2018

فلسفة مبسطة: الفلسفة البراغماتية (وقصة ساخرة للتعبير عن المنطق البراغماتي)

  •  
نبيل عودة – الناصرة 
من رواد الفلسفة البراغماتية الفيلسوف الأمريكي وليم جيمس (1842 – 1910) الى جانب الفلسفة كان من رواد علم النفس الحديث أيضيا.. وكان شقيق الروائي المعروف هنري جيمس وأليس جيمس كاتب اليوميات. يعرف وليم جيمس أيضا بأنه فيلسوف الحرية .
من مؤلفاته: الإرادة، الاعتقاد، مبادئ علم النفس، البراغماتية. من أقوله الشهيرة: “إن الاكتشاف الأعظم الذي شهده جيلي والذي يقارن بالثورة الحديثة في الطب كثورة البنسلين هو معرفة البشر أن بمقدورهم تغيير حياتهم عبر تغيير مواقفهم الذهنية”.
اصطلاح البراغماتية من أصل يوناني (pragma) وتعني العمل – المسألة العملية أو التمرس كما حور الرومان الاصطلاح( progmaticas) .هذه الفلسفة انتشرت وبرزت اساسا في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كسبت شعبية لم تكسبها الفلسفات الأخرى. ويعتبر الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (1859 (1952- الأب الروحي وزعيم من زعماء الفلسفة البراغماتية. وهو من أطال عمر هذه الفلسفة واستطاع ان يستخدم بلياقة كلمتين قريبتين من المفاهيم التربوية الشعب الأمريكي هما “العلم والديمقراطية”!!
خطوط البراغماتية العريضة تبلورت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد الفيلسوف تشارلز بيرس (1839- 1914) ثم تابعت تطورها مع وليم جميس.
انتشرت الفلسفة البراغماتية في أوربا مع بداية القرن العشرين ، ويبدو ان الأمر مرتبط بتحول امريكا الى قوة دولية هامة وبداية سيطرة الثقافة الأمريكية والفن الأمريكي عالميا.
البراغماتية كانت اشبه بفلسفة أمريكا القومية ، رغم ذلك لم يصبح دور الفلسفة البراغماتية مؤثرا كما هي الحال في أمريكا حيث سيطرت البراغماتية على نظام التعليم الأمريكي لسنوات طويلة جدا .
ملاحظة: هذه القصة تتناول موضوع البراغماتية من زاويتها الساخرة حسب جملة وليم جيمس باننا نختار الحقيقة بمدى التغيير الذي يمكن ان تحدثه في حياتنا… وبمعرفة البشر أن بمقدورهم تغيير حياتهم عبر تغيير مواقفهم الذهنية”
*********
من يريد استعادة زوج مثل هذا؟
قصة: نبيل عودة
وصلت مدام نديم برفقة صديقتها الى محطة الشرطة، قلقة ومضطربة وتكاد الدموع تتدفق من عينيها.. ولولا صديقتها المخلصة التي تتأبط ذراعها وتمسح عرقها وتهمس لها مطمئنة: “سنجده.. ستجده الشرطة.. لا تقلقي”، لسقطت على الأرض مغشيا عليها.
كانت متوترة للغاية.. وفورا توجّهت للشرطي المناوب:
– زوجي ضاع.. خرج ولم يعد.. اريد أن تجدوه لي.. اذا لم يتناول دواءه اليومي قد يموت!!
فورا أدخلت الى غرفة ضابط مسؤول.
– ارتاحي يا سيدتي واهدئي.. انا سأعالج الموضوع.
– الموضوع لا يحتاج الى علاج.. اريد ان تجدوا زوجي.. خرج صباحا ولم يعد.. ليس من عادته.. انه مريض.. ويجب ان يتناول دواءه والا.. آه.. يا ويلي..
– حسنا سيدتي اطمئني.. لا داعي للقلق.. هذه وظيفتنا أن نجد المفقودين.. عليك ان تعطينا بعض التفاصيل..
– زوجي ضائع وانتم تريدون تفاصيل.. تفاصيل مفاصيل.. من يهتم للتفاصيل.. اريد ان تجدوا زوجي وكفى.
حاولت صديقتها ان تهدئ من روعها..
– مدام نديم يا صديقتي.. أنت مضطربة.. الضابط يريد وصفا للسيد نديم حتى يجدوه..
قال الضابط بفراغ صبر:
– اهدئي يا سيدتي.. سأجلب لك كوب ماء.. خذي راحتك..
قدم لها الضابط كوب ماء بارد. فأفرغته دفعة واحدة. قال:
– اطمئني.. سنجده.. بالطبع نحتاج منك الى معلومات حول عاداته وشكله و..
قاطعته:
– أقول لك زوجي ضائع وانت تقول لي معلومات..؟
جففت دموعها..
– ما اسمه يا سيدتي؟
– نديم.. السيد نديم.
– صفيه لنا..
نظرت مدام نديم بوجه الضابط، فكرت، انتعشت قليلا وبان بعض الهدوء على محياها
– زوجي طويل القامة..
قاطعتها صديقتها:
– مدام نديم.. يا صديقتي..
اشارت اليها بيدها بحركة غاضبة ترفض المقاطعة:
– يا صاحبتي.. أنا أعرف زوجي أفضل منك..
احمرت وجنتي صاحبتها وصمتت.. ولكن في وجهها بان عدم الارتياح.
– زوجي طويل القامة..
قالت بحيوية وارتياح وكأنها لم تكن قلقة مضطربة قبل لحظات. تابعت:
– طوله.. أظن حوالي مترين.. اليس كذلك يا صديقتي..؟
الصديقة تبدو مصدومة وغير مصدقة ما تسمع.. وتمتمت بما يفهم ان الوصف صحيح.
– جسمه رياضي.. أسود الشعر.. قوي العضلات.. اسمه نديم.. نسكن قرب العين الفوقا.
– قلت انه مريض… وقد يموت.. وهذه صفات لرجل قوي لا يعرف المرض..
– أجل أجل.. يتناول دواء يوميا.. بسب رشح خفيف ألم به.
– أي لا يوجد خطر الموت.. حسنا.. متى خرج وما هي عاداته اليومية؟
– كان يجب ان يعود ظهرا.. ليس من عادته أن يفوت وجبة الغداء ظهرا. ها نحن في المساء ولم يعد.
بانت الحيرة على وجه الضابط.. خاصة وان الصديقة بدت مرتبكة وشيئا ما يجعلها أكثر اضطرابا من مدام نديم. ألقى قلمه على المنضدة، تأمل مدام نديم، تأمل صاحبتها.. هزّ رأسه بعدم استيعاب.. وسأل:
– لكنك تصفين انساناً مسؤولاً وعاقلاً وغير مريض، ربما انشغل مع بعض أصدقائه..
– أصدقاء.. لا أصدقاء لزوجي.
بانت الحيرة على وجه الضابط.. وسأل بعدم اهتمام:
– ماذا كان يرتدي؟
– بنطالاً رمادياً، حذاءً رياضياً وقميصاً أزرق اللون..
حاولت الصديقة أن تقول شيئا، فأشارت لها مدام نديم ان تصمت. قال الضابط بملل:
– اعطني رقم تلفونك.. ونأمل خيرا.. هل تحملين صورة له؟
– وتريدون صورة له.. هل صار مشهورا مثل مايكل دوغلاس؟ لا أحمل صورته معي..
– سأرسل شرطيا لأخذ صورة له.. الصورة تساعدنا على ايجاده بسرعة.
– لا أعرف أين صوره.. لا أعرف..
– عودي الى البيت.. وابحثي عن صورة.. سيحضر شرطي لأخذ الصورة.
قالها بطريقة توحي ان المقابلة انتهت. أعطته رقم تلفون المنزل وغادرتا مبنى الشرطة وهي تردد:
– جدوه بسرعة.. لا أريد ان يتعرض لمكروه.
خارج مبنى الشرطة نطقت الصديقة ببعض الحيرة والعتاب:
– تفاصيل زوجك ليست صحيحة.. كيف سيجدونه؟
– هل تعرفين زوجي أكثر مني؟
– يا صديقتي ماذا جرى لك.. زوجك طوله متر ونصف وأقرع وله كرش ضخمة، مصاب بمرض النسيان ولا رياضي ولا بطيخ.. يدبّ على عصا ويسير بصعوبة؟
نظرت مدام نديم باستهجان لصاحبتها وقالت بحزم:
– ومن يريد استرجاع زوج مثل هذا؟!
نبيل عودة – كاتب وناقد واعلامي فلسطيني – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com


الثلاثاء، 11 سبتمبر 2018

كنـت معهــــــا
نبيــل عــودة

ان يعيدك تلاقي نظرات غير متوقعة، الى ما كانت تظنُّ انه مُحي من سيرتك وتاريخك، تلاشى من ذاكرتك واضمحل أثره في وجدانك، وان يحيي ذلك اللقاء الصامت، ما صار منسياً ثم الاندفاع بالنظرات للبحث في القسمات والتعابير بلهفة وعبر لقاء فجائي بين زوجين من العيون، فيعود المنسي ببريق متوهج ينجلي تماما بأبهى صوره، يكثف جوهره، يتجذر وكأنك تواصل ما كان بلا انقطاع، ويسيطر بلا مقدمات... بدفقه السحري على ذهنك، ومن شدة مفاجأتك وارتعاشك تكاد تطفر دمعة، ليست دمعة فرح بعد لقاء. فلم يكن بينكما لقاء، وليست دمعة حزن على فراق، فما كنتما في لحظات فراق، كان لقاء لم تشارك فيه سوى نظراتكما وانفاسكما، ومع ذلك تمنيت ان لا تؤول اللحظات الى انتهاء، ان لا تفنى الدقائق، ان يتوقف كل ما في العالم عن الحركة، ان يتجمد الزمن.
 تتشابه كل النساء في العالم في حياتك، الا هي، تشابهت كل الاختراقات وبقي اختراقها سراً مكتوماً. تشابهت كل القبل وبقي لقبلتها طعم النبيذ المعتق، تجلس ضامة شفتيها، بهدوء رخيم، ولا يتحرك فيها الا عيناها المتنقلتان بين عينيك وبين صحن الطعام. نفس النظرات ونفس الأناقة ونفس الجاذبية. هل عرفتك؟ نظراتها تقول نعم، وقسمات وجهها لا تقول شيء. ربما تقول. ؟؟
أيقنت ان الذكريات لا تعترف بالزمن، ولا تستسلم للانتهاء، فوجئت بارتعاش اطرافك ووجيب قلبك، وغبت مجبراً عما حولك. كنت موجوداً بجسدك وغائباً بذهنك، وها انت ترحل الى حلم بعيد تكتشف نفسك من جديد تفزعك كثافة حلمك.
أهو حلم يعتريني، ام واقع غريب كالأحلام؟ كالسحر؟ هزتني المفاجأة ونقلتني من حال الى حال. كنت كمسافر اضنته الطريق واخذته بعيداً. أرهقته المسافات، تاه طويلاً في المساحات، خطفه الحزن وتنازعته شتى الأمنيات والرغبات، كرب وفوضى رغم الحقيقة الواضحة، متيبس في صحراء، تائه... وفجأة ينطلق الرذاذ الرطب الى وجهي... التقطت أنفاسي طالباً المزيد، وما كانت من وسيلة للمزيد الا نظراتي، فيزداد حلقي تيبّساً وتزداد شفتاي جفافاً، ازداد لهفة وازداد لوعة.
من لي بقاهر الزمن، يمحي من ذاكرتي فراقها، ربما يعيدني اليها، يعيدها الي لأغير ما جرى، لنغير نبض أيامنا ونعطي لما بقي من عمرنا وعشقنا رونقه المقدر، نعيد أجمل ما في العمر ونواصله.. نجدد الوصال ونجدد العشق.
كنت اظن ان الزمان كفيل بطي ما كان. ينهي الرغبات ويبدد الأحلام. فاذا الزمان يخر صريعاً امام رحيق امرأة جعلت مني غير ما انا.
زرعت في أحاسيسي رعشات قبلاتها، وملأت الهواء حولي بخمرها، بعبقها، برحيقها، بطعم النبيذ الفاخر المعطر بفعل الزمن، يبعث بمجرد التفكير فيه تخديراً لذيذاً يجري في الشرايين، يتدفّق مع دمي لكل أطرافي ولا يتوقف...
لا أدري ما يراودني. أبحث عن استراحة أرتب فيها نفسي واوراقي ويقيني لأعود أتابع حلمي البعيد.
أهو حلم حقاً؟ ربما رغبات ضائعة؟ وربما أوهام؟ أو حقيقة لم تتم؟ عدم تمامها يعذبك؟ وهل تقدر الأحلام ان تحفظ رحيق امرأة ونشوة ابتعد بها الزمن؟!  هل الزمن وهم..؟ تخيلات؟ ام حقيقة موضوعية؟
انتهى كل شيء قبل عقدين ونصف العقد. من السهل قياس حياتنا بالزمن ومن المستحيل قياس ذكرياتنا بالزمن. الزمن معادلة قهرية لا تستقيم مع الحب. ربما ما يعتريني يؤهلني لكتابة نظرية عشقية في مفاهيم الزمن والصبابة؟ لكن رحيق المرأة لا يؤمن بالزمن، لا يؤمن بالمقاييس الثابتة... كم اتمنى الاقتراب من ملتقى الرقبة بالكتف لأستنشق خمرة أنوثتها بعمق وحرية. هل أنا في عالم ملموس؟! ام في زمن خرافي؟ هل يحد الزمن سحر امرأة ؟! هل يقضي على الإحساس بالنشوة التي كانت؟! وأقول لنفسي ان الصبابة لا تؤمن بالزمن.
العاشق لا يؤمن بالزمن، لكن لا شيء يوقفه، الزمن لا يتوقف. ربما انا بحاجة الى شيء من الإدراك؟! هل في الجنون إدراك؟! وهل في هذا اللقاء إدراك؟
أحياناً تبدو الكتابة عن المحسوسات غير المادية مستحيلة عبثية، وان عالمنا المادي لا يعترف الا بالموضوعات المرئية والملموسة، وان خروجنا عن هذه القاعدة يرسلنا بعيداً نحو الغيبيات. لوهلة لم أثق انها هي. ترددت غير أني تأكدت من نفسي. هذه تفاصيلي التي أعرفها.. تمتد يدي المعروفة لي تماماً نحو كأس النبيذ. أبيض يميل الى الاصفرار.
طعمه معروف لي ولساني يعتصر بتلذذ أخر ما تبقى من الرشفات، لا أشعر بقدمي، لكني متأكد من ملكيتهما، هذه يدي اليسرى تسند ذقني وأنا مسحور من المفاجأة  وعيناي ترفضان الابتعاد والتعقل. لا ارادة لي في زجرهما، لكن ذهني يتلقى وقائع اللقاء المرئية مما يثبت انهما عيناي حقاً. تحسست رأسي متقيناً ان موقعه لم يتغير. ربما انا بحالة هلوسة من فعل الخمر؟ ولكن الخمر لم تغدر بي في السابق ولم تتغير العلاقات المتوازنة بيننا. ها انا بالكاد تذوقتها وما حان الوقت لتفصح عن نفسها ملوحة زاجرة فأي خطوب تلم بي؟! أي طقس يعتريني، أهو طقس سكر ام طقس الحب؟ أم السكر والحب بتعاون لا يعرف الخلاف؟! هل لي بشفيع يخفف حيرتي؟! يفرج كربي؟! يرشدني؟! تكررت النظرات وتشعبت الذكريات، أحياناً تبدو الذكريات كلمحات لا يمكن الوصل بينها.. كتناقضات من المحال ان تشكل وحدة واحدة، غير ان يقيني التام ان الحب لم يهجر جوانحي... والا فماذا تسمي الأحاسيس التي تدغدغني؟!
غرقت في نفسي لاستجلاء أنصع ما يكون من ترابط للذكريات التي تعصف بي اوراقها الكثيرة.. تنتعف بوجهي، فألهث وراءها لأجمعها في نسق صحيح وأرتبها بذهني، ضفيرة وراء ضفيرة. هل كنت أتمنى لقاء بلا ميعاد؟!
هل كان اللقاء ضمن توقعاتي؟! خمسة وعشرون عاماً تندفع في لحظة لا تقاس بمقاييس الزمن المتعارف عليها. تتوالد من الابعاد مشاعر ما كنت اظن انها ستعود لي. هل سأكتفي بها؟! وهل تستعاد أيامنا من التاريخ؟! أم نبقى رهائن للذكريات؟! ما تبقّى لي منها اطلال من الأحاسيس لا تغادرني. اخاف ان تغادرني. ربما توهّمت أنى نسيتها. ربما تناسيتها عجزاً من الوصول اليها؟ تناسيتها لتخفي هزيمتك؟ فجأة تكتشف ان ربع قرن يفصل بينكما وأمتار قليلة تبعدها عنك، قريبة وبعيدة المنال... ربع قرن لم ألمحها ولم تلمحني. ها هي تجمعنا لحظة مجنونة كغرباء. لا يستطيع ان يقترب أحدنا من الأخر ليتأكد بالملموس من صدق المحسوس.. ليتني اعانقها ولو للحظة، أكون قد حققت مرادي في الحياة، قلت لنفسي الحب لا يعرف الاستقرار. لا أذكر أنى لمحتها منذ تباعدنا، انا متأكد من ذلك. أنا واثق انها لم ترني منذ ودعتني بقبلة رطبتها دموعها.. وهل تنسي تلك القبلة؟!
هل يتغلب الزمن على حرارتها وملوحتها...؟ هل ينسى وجيف القلب؟!
لم يكن فراقنا تنافراً. انما كان قراراً وحيد الجانب. قالت انه إدراك للمسؤولية. رأيت به ادراكاً مشوهاً لحقيقة مشوهة، كان الأحرى بي التحدي. كنت مستعداً للتحدي ولكنها أصرت على الابتعاد. فالتزمت برغبتها. قلت لنفسي ان الانسان يحمل في داخله ضده.
كان التعارف بيننا سريعاً وغريباً وبلا مقدمات وبلا اجتهاد، بادرتني:
-انت تشدني.
كانت تتوهج بجمال فطري، اضافت اليه أناقتها البارزة وحسن الاستعمال للأصباغ سحراً أخّاذا.
لم افهم ما تعني بـ"تشدّني". ولكن بروز صفي اسنانها المرتبين بدقة ومن وراء انفراج ابتسامتها جعلني أفهم وأتغابى. اربكتني بجرأتها. لم اتوقع هجوماً بلا مقدمات. اعترف انها نجحت بإرباكي كما لم يربكني أحد من قبل. ارباك انقلب الى سعادة، ثم فراق ثم شقاء.
عرفتها في زيارة بيتيه لاحد اصدقائي. كانت تجلس في الصالون وتتبادل الحديث مع مجموعة من الصبايا في امور لا أذكرها وربما لا أفهم منها شيئاً لو تذكرتها. بعضهن ارتبك لدخولنا فصمتن اما هي فواصلت حديثها بنفس الحيوية، بعد ان توقفت للحظة لرد التحية مرفقة بابتسامتها.. فراقبتها دون ارادة بطرف عيني. كان فيها شيئاً مميزاً لا تكتشفه بسهولة ولكنه يشدك. وجدت نفسي أغوص بما لا عهد لي به، لم أستطيع مبادلة صديقي حديثه ولم يفهم ما يعتريني، ربما فهم وصمت، اخترقت أحاديث الصبايا بلحظة مؤاتيه وبمهارة، قد تكون اثارت شكوك صديقي لتحولي المفاجئ من الملل بتبادل الحديث معه، الى الحماسة بالحديث اليها... وللأخريات. بدأ الاستلطاف من حيث لا أدري. حدث التعارف من حيث لم أتوقع. النظر اليها راحة، الرغبة بالتواصل لا تعرف حدوداً. حين قامت لتذهب اعطتني يدها.. أسلمت يدي بحماس ليدها ضغطت بلطف وصعقتني بـ"انت تشدني"... بصراحة وبلا مقدمات وبلا توضيح اضافي
وقالت:
- سأتصل بك لنواصل حديثنا.
قرصني صديقي بخصري فجفلت، انتبهت فابتسمت ولم تضف، انما استدارت لتخرج وراء صديقاتها  وعدت لمللي من مواصلة الحديث غارقا بتوقعات وتحليلات سحرية.
بعدها التقينا كثيراً. ربما قليلاً. يتعلق بمفهومنا النسبي للكثير والقليل ولكنها كانت لقاءات كافية لتوحد ما بيننا. كانت الفعل وكنت رد الفعل المشابه والمساوي له بالقوة. تفاهمنا ان الاعجاب متبادل وبنفس القدر وان الاستلطاف تم واكتمل...فنعم ما حصل. قلت لنفسي ان كربي انفرج وأشرقت شمسي وهذه بداية حقيقية للحياة. سألت نفسي هل تبيع اصلك الصعلوكي ومبادئك الملتهبة مقابل عشرتها؟! قلت لنفسي ان الصبابة هي الخمر والمبادئ هي الأمر... وهما مثل الليل والنهار، لا يحل الواحد مكان الأخر، انما يلتقيان في رقصة دائرية لا فكاك منها.
اندفعنا بعشقنا، غافلين عما تخبئه لنا الأيام وكانت وقائع حياتنا تتجلى بين لقاء ولقاء. كان لقبلاتها طعم خاص لم أعهده في مغامراتي الأولى، حتى توتري وهيجاني مختلفان، اكتشفت نفسي من جديد. اكتشفت الحب من جديد. انتشيت، سحرني ما انا به وتمنيت دوام الشروق، تمنيت دوام الاستقرار وقلت لنفسي:
-   ما انا به لم يراودني حتى في احلامي. وقلت: هذا منتهى احلامي ولن أطمع بامرأة غيرها.
  كنت اريدها برغبة لا تعرف الحدود... قالت:
-   اعرف ما تريد، وانا اريده كما تريده انت ولكني لست بغجرية.
-   الغجرية حارة حتى في الشتاء وحين ترقص تصبح مرغوبة أكثر.
لا اعرف ما شدني اليك. ربما هذه حماقة حياتي الأولى.
- اضيفي اليها حماقة اخرى، لينزل على قلوبنا الاطمئنان والسلام وانا حاضر لأي ثمن تطلبينه.
قالت بشيء من الحدة والألم:
- هل انا بغي لتفاوضني على ثمن لحبي؟!
قلت مخففاً من زلتي:
-لا تفسري كلامي بغير معناه. انا اسير هواك... أصرخ مستغيثا ًللمزيد، فاحتملي نزوات لساني... لن اتجاوز ما ترفضينه. ولكن الرغبة مجنونة...
 ضمت راسي لمنحدر صدرها تحت الرقبة فتمنيت الا يؤول الزمن الى انتهاء، تفحّصت بنظراتي معالم وجهها وامتداد الرقبة بين الذقن والكتفين محاولا المقارنة بالأصل الذي اعرفه. اجابتني بنظرة تقول اشياء ولا تقول شيئاً، أتستعيد هي ايضاً ذكريات ايامنا الملتهبة؟ تحتفظ بطعم قبلاتي؟ بانسلال اصابعي بين خصلات شعرها؟ بتفحصي مناطق صدرها المحظورة؟ كم تمنيت ان اكتشف بالرؤية ما ينتهي به انحدار الصدر وصدتني بقوانين عشقها الصارمة المتزمتة. كنت احاول ان استجلي بالعناق عن طريق ضغط صدرها الى صدري، ما لم استجله بالرؤية المثبتة والقبض عليهما بالجرم المشهود. صبرت حبيبتي على جنوني فتماديت.. ولكنها وقفت بالمرصاد.
قالت لي ان مبادئي الثورية هي تغطية ناجحة لعبثي. قلت وهل تنفي المبادئ الثورية الحب؟! قالت ولكنك عابث. كان حكمها غير قابل للاستئناف.
حددت المسموحات واكدت الممنوعات. قلت بأني سأتقدم لطلب يدها.. فصدتني. قلت:
- انت تدفعيني للجنون، يستعصي علي فهمك...هل هناك قيمة لحبنا الا بالزواج؟
- افضل من ان تدفعني للندم.. انت مغرور. انت طفل انت مستهتراً. احياناً بلا تفكير؟
- ترفضين ما اؤمن به من افكار؟ الم تجمع افكارنا بيننا؟!
- ماذا تسوى بلا افكارك؟! ولكن ليت توازنك كأفكارك، ليت تفكيرك كأفكاري.
- أكرر اقتراحي... أريدك زوجة لي، الزواج يعيد الي توازني، يوصلنا للسعادة.
- انا خائفة! احبك وخائفة. اقول لنفسي أنى لن أستطيع ان اكون لغيرك.. وأقول لنفسي ان الحب سلطان كاذب، واقول لنفسي ان مصائرنا ليست بالضرورة ان تكون محكومة لرغبات نفوسنا. ربما ما بيننا هو طيشنا. هو لا وعينا. احبك واخاف. يهيأ لي أنى ارتكب حماقة. أتألم واقع في حيرة. لا اعرف كيف اندفعت ولا اعرف كيف اتوقف، اتمهل لأستعيد تفكيري. يجب الا نكذب على بعض. نحن مختلفان، اجتماعياً مختلفان. المسألة ليست بقدرتي على قبولك، ليس هذا ما يقلقني، ولكنك لن تقبل ذهنيتي الاجتماعية، لن تقبل اجواءنا، لن تقبل صياغاتنا ولن تقبل خصوصياتنا.
واجهشت بالبكاء، اخذتها بين ذراعي بقوة، لامست وجنتيها بشفتي. استلطفت ملوحة دموعها وحرارتها.
- سأتغير، سأتعلم ان احترم اسلوبكم... المهم انت. يؤلمني عذابك!!
- ليس هذا ما ابحث عنه. انا لم أخلق لما نحن به، اكاد أنكر نفسي أرفضها.
بدأت افهم ما يعتري فكرها. بدأت المس خطئي في الاندفاع العابث المجنون.. واعترتني كآبة وتوجس. كان واضحاً أنى رسبت في الامتحان. فهمت ان ما شدنا الى بعض ليست رغباتنا. ربما اوهمتها بفلسفتي اموراً تبخرت. تلاشت مع العناق والقبلات، فلم يتبق الا الموضوع الصعلوكي، حتى في الحب قد اكون اندفعت باستهتار لإشباع رغبة مجنونة، فلم اميز بين الحب وبين المتعة العابرة. وها هي تستعيد توازنها. تبكي وتستعيد ادراكها. تحبني ولا تستطيع قبولي. استجديها فتبتعد أكثر. لأول مرة أتوجّس ان تتركني امرأة، ان أبقي بدونها. كنت اركض من علاقة الى علاقة ومن رغبة الى رغبة، حتى وصلت اليها، حتى وصلت الي، فاتّحدنا. كانت صريحة ومقنعة وساحرة في صراحتها. اقامت حدوداً جغرافية لا يجوز تجاوزها. وافقتها معتقداً ان قدرتي وفني كفيلان باختراق المستحيل. كنت مندفعاً مغروراً، وها أنا ادفع ثمن اندفاعي وغروري، رغم أنى لم أحب امرأة كما احببتها، واعترف لازلت أحبها. وهل يكفي الحب؟! نظراتها تلتقي نظراتي ولا تقول شيئاً. ربما تقول ما لا أستطيع ادراكه. وبنظراتي اتفحص مشدوهاً المساحات التي اعرفها، واحاول ان اطابق بين الصور الباقية في ذهني والصورة المتجلية أمامي.
وعلى حين غرة، وانا غارق في توجسي من انتهاء ما بيننا، باحثا عما يزيل كربي ويثبت قربي اليها، التفتت الي، وقالت بحزم طارئ.
- انا احبك.. اعترف.. ولكن سعادتي وسعادتك بالافتراق. عرفت هذا منذ اليوم الاول، ولم اصدق حدسي... لا تقل شيئا.. لا تزد حزني... اريد ان اذكرك كما انت...
قبلتني قبلة طويلة حرارتها فوق العادة. نظرت بعيني، ثم طبعت قبلة فوق جبيني، وتركتني وانطلقت دون ان تنبس بحرف آخر. ولفني الصمت.
انتظرتها في المواعيد المتفق عليها، فلم تحضر، انتظرت بلا أمل ولم احاول الاتصال بها. وجررت نفسي بعيداً عن طريقها. اتجرع وحدتي وألمي. اضطرب توازني وثقتي بنفسي عشت عذاب الفراق. زاهداً بما يحيطني، متحسراً على ما فقدت وحزيناً لانقضاء أجمل ما في حياتي. هل من وسيلة تستعيد فيها الذات ما تحب؟! ما بدا حقيقة مجسمة تناثر بلحظة؟!
مضى ربع قرن، خمسة وعشرون عاما بالتمام والكمال. لم يفارقني حبها. لم يفارقني عبقها.
أريجها عطرها حرارتها، ملوحة قبلتها الاخيرة... ولكنه انزوى في حنايا الذاكرة. حبي لها اكتمل ولكن رغبتي لم تكتمل، وما كان لها ان تبلغ وتكتمل حتى لو وصلت لما اريد.... كنت اريدها ليس للحظة، اريدها لكل العمر، ولما بعد العمر لو تيسر؟ علمت بزواجها وهجرتها مع زوجها الأمريكي الجنسية والقريب... ربما هو السبب؟!
ها هي نظراتنا تلتقي، تقول اشياء ولا تقول شيئاً. تصمت ولا تصمت. كنت جالساً مع مجموعة اصدقاء في مطعم غير بعيد عن شواطئ البحر في عكا ورائحة السمك المقلي الذكية تخدرني. فهو ملاذي بعد فقدانها، السمك والنبيذ الابيض المائل للاصفرار. ربما فقداني لها بطريقة لا تختلف عن تملص السمكة من يد صيادها، جعلني انتقم من الاسماك... او أحبها أكثر. رفعت كأسي المليئة بالنبيذ الأبيض، مستنشقاً عطره الأخّاذ، حين التقت عيناي بعينيها. كانت أكثر من صدفة. صدمة شعرت بعدها بارتعاش أطرافي وكأني أعود الى الماضي. وملأت الخمرة انفي بعبق انوثتها. ربع قرن وعبقها لا يفارقني شربت دون وعي. اكلت دون وعي، وكنت مع اصدقائي وبعيداً عنهم، كنت معها وكانت معي... وكان بيننا ربع قرن... وأمتار قليلة!!

nabiloudeh@gmail.com

الأحد، 15 يوليو 2018

فلسفة مبسطة: الماركسية بين الجدلية والمركزية
نبيل عودة
نشأت الفلسفة في اليونان القديمة (بلاد الاغريق) على قاعدة تفسير الظواهر الطبيعية عقلانيا بعيدا عن ربطها بآلهة تتحكم بها. لذلك عرفت باسم الفلسفة الطبيعية .. طبعا الى جانب الاهتمام بعلم الأخلاق والقانون وشكل الدولة والتقسيم الاجتماعي وعلم المنطق .. الخ.
الفلاسفة الإغريق في وقتهم حسموا بموضوع أن عالمنا قائم على العقل وليس على النقل. على العلم وليس على الإيمان بالخوارق. الإيمان هو عملية نقل، ظاهرة تنقل بالوراثة وليس بالوعي. لا انفي أهمية الدين الأخلاقية كمحاولة لوضع قواعد تعامل اجتماعية بين البشر، لكننا نواصل منذ ستة آلاف من السنين التمسك بما أثبتت الفلسفة الإغريقية بطلانه ورفضت جعله معيارا فكريا سائدا تفسر به الوجود الإنساني والطبيعة.
في الفكر العربي نجد ان "إخوان الصفا" أقروا أن الفلسفة هي محبة العلوم وأوسطها معرفة حقائق الموجودات حسب طاقة الإنسانية وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم ... اليوم يسود النقيض لفكرهم المتنور!!
ديكارت (ابو الفلسفة الحديثة) قال ان الفلسفة كلها بمثابة شجرة جذورها الميتافيزيقا وجذوعها الفيزياء وغصونها المتفرعة عن هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى. أي ربط الحصان أمام العربة وليس وراءها، كما يفعل الفكر الديني.
الفلسفة الماركسية التي اعتبرت بجدارة فلسفة القرن العشرين لم تكن اختراعا بل كانت دمجا مع مادية الفيلسوف الألماني المادي لودفيج اندرياس فيورباخ (1804 – 1872). الذي كان في البداية تلميذاً للفيلسوف الألماني جورج فلهلم فريدريش هيجل (١٧٧٠١٨٣١) ثم أصبح من أبرز معارضيه. ويعتبر هيجل أحد أهم الفلاسفة الألمان حيث يعتبر أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي. لقد اعتمدت الفلسفة الماركسية على ثلاث قوانين جدلية (ديالكتيكية) فلسفية رئيسية، اقتبستها من هيجل وهي: قانون نفي النفي ووحدة وصراع المتناقضات وتحول الكم إلى كيف.
حظيت فلسفة هيجل بتأثير كبير وهام على الفكر الحديث، وكان كارل ماركس أبرز الفلاسفة الذين تأثروا واقتبسوا من هيجل فلسفته الجدلية قالبا اياها رأسا على عقب: إذ أن جدلية هيجل هي عبارة عن عملية أو ديناميكية تمضي وفقها جميع القضايا من الأمثل فالأمثل نحو “الفكرة المطلقة” وقد سميت “بالجدلية المثالية”. بينما منهج ماركس الفلسفي الجدلي رأى بأن جدلية الأفكار ليست سوى انعكاسا لجدلية المادة. لذلك اتخذ من مفهوم الجدلية المادية (المادة تسبق الفكرة) أساسا ومنبعا لحركة التاريخ وتطوره. اذن هيجل قدم مساهمة عظيمة حول الجدلية، عبر فكره المثالي (الفكرة المطلقة) بينما ماركس أخذ الجوانب العقلانية لجدلية هيجل معترفا بمساهمة هيجل في تعميق مفهوم الجدلية بقوله: لقد أصبحت الجدلية بين يدي هيجل روحية لكن هذا لا يمنع بأنه أول من بين أنواع الحركة العامة للجدلية بجميع خصائصها، وقال لينين قائد ثورة اكتوبر الاشتراكية وزعيم البلاشفة في روسيا ان "هيجل كان في جدليته موضوعيا أكثر منه مثاليا".
رغم ذلك لا نشهد ان التطور الفلسفي والثقافي قد ترك آثاره على تطور الفكر العربي او تطور فلسفة عربية. بعض رجال الكهنوت يدعون ان الدين هو فلسفة، لكنها ادعاءات لا تصمد أمام الواقع الفكري البسيط. إذا اعتبرنا الدين فلسفة نجد انه لا يفسر أي شيء بطريقة علمية إنما بالاعتماد على الفكر العجائبي والخرافي.
الفكر الماركسي واجه ويواجه اليوم نقدا حول العديد من القضايا التي كانت تبدو نهائية، مثلا الفكر المادي التاريخي يواجه اليوم إشكالية كبيرة، بل والبعض يعتبر المادية التاريخية لماركس نظرية خاطئة لم تثبت نفسها. الجدلية المادية نظرية تتناول تطور المجتمع البشري وتحولاته حسب فكر الصراع الطبقي الذي يقود الى صراع بين الطبقات يسفر عن انتصار الطبقة البروليتارية(العمال) على البرجوازية وبناء النظام الاشتراكي .. نظام ديكتاتورية البروليتارية. وقد ثبت ان التطورات نقضت هذه النظرية، لكن لا يمكن تجاهل حقيقة هامة ان الماركسية بجوهرها لم تطبق في النظام الاشتراكي (السوفييتي في حالتنا) بل طبق نظاما استبداديا رهيبا لم يتوان عن اعدام ونفي الملايين وقمع كل صوت معارض لنهج ستالين حتى من قادة الحزب الشيوعي السوفييتي وقادة ثورة أكتوبر. بنفس الوقت طرح فكر الصراع الطبقي التناحري، اعتمادا على ما كان سائدا في القرن التاسع عشر، حيث الطبقة العاملة لم تكن قد ارتقت فكريا ومهنيا ومكانة اجتماعية، والنظام الرأسمالي لم يكن قد وصل بثروته الى مستوى سبق فيه العالم الاشتراكي بنسب كبيرة جدا، ووفر للطبقات العاملة شروط عمل واجور ورفاهية تجاوزت ما كان سائدا في الدولة الاشتراكية السوفييتية. 
قرأت وثيقة هامة لقائد شيوعي تفسر مشكلة الماركسية والفكر الشيوعي وتطبيقاتها السوفييتية كتبها مثقف شيوعي عقلاني هو الأمين العام للحزب الشيوعي الأميركي صموئيل ويب (Samuel Webb) كتب:
"قرأت ماركس ولينين ولوكسمبورغ وغرامشي وكتابا آخرين كثيرين كتبوا عن الماركسية وغير الماركسية، ولو سئلت بعد كل هذه القراءات عن النتيجة التي خرجت بها لقلت .. أن البنيان النظري للشيوعيين أي الماركسية اللينينية بوصفاتها الثابتة والمحددة لا ينسجم والتحليلات القائمة التي يكتنفها افتراضات لم يُقطع بها وتقوم بمنهج غير ديالكتيكي (جدلي) شديد المركزية والنتيجة سياسات تتجاهل الواقع"!!
كلام واضح. البنيان النظري للشيوعيين كان شديد المركزية .. أي طروحات ثابتة لا تتغير ولا ترى التحولات العظيمة في عالمنا. أي لا شيء جدلي (ديالكتيكي) في فهمهم للتحولات، واستيعابهم مثلا للتحولات بواقع النظام الرأسمالي، بواقع الطبقة العاملة، تطور مستوى الحياة والرفاهية في النظام الرأسمالي، تطور الحريات ومختلف الحقوق الإنسانية. رغم كل ما تبقى من ظواهر سلبية كبيرة، الا ان الصراع الطبقي بدا يتحول الى نضال طبقي بعيد عن العنف .. حتى دور النقابات العمالية بدأ يتلاشى الى منظمات حقوقية واجتماعية وليس نضالية تؤجج الصراع الطبقي التناحري. أي ان التحولات أضحت عبر صناديق الاقتراع وليس عبر نضال بالشوارع ووراء المتاريس. بينما النظام الاشتراكي فرض نظاما ديكتاتوريا قمعيا رهيبا. انهياره كان بلحظات، ولم يجد من يدافع عنه حتى جيشه الشيوعي الأحمر وقف متفرجا.
طبعا ما اريد تأكيده في هذه العجالة الى ان مجتمعا لم يستوعب التطور الفلسفي والثقافي من عصر الإغريق مرورا بعصر التنوير وصولا الى عصرنا الراهن، وقمع فلاسفته واعتبر فكرهم كفرا وزندقة، هو مجتمع يعيش في الظلام الحالك، حتى لو ملأ الدنيا صراخا وابتهالا وعبادة.
السؤال المقلق والمفتوح: هل يمكن ان ترقى ثقافة روحية وثقافة مادية بظل سيادة فكر ديني يتمتع بجبروت كامل وسيادة مطلقة، وتطور أشكال إرهابية بغلاف ديني؟ هل يمكن ان نشهد عودة الى نشوء فكر فلسفي عربي في الواقع المتهافت الذي يعيشه عالمنا العربي؟
رؤيتي ان التاريخ اخرج العرب من حسابه حتى تاريخ غير معلوم. ولا أرى ان الفكر العربي والثقافة العربية مؤهلة في الظروف المؤلمة السائدة في العالم العربي على إحداث تحول ثوري ينقل الشعوب العربية من الانعزال الى المشاركة في حركة التاريخ. أين نحن من حركة الثقافة العالمية؟ من الإبداع الروحي والإبداع المادي. لا حضارة بلا ابداع مادي، أي إنتاج الخيرات المادية وتوفيرها للمواطنين عبر تحقيق رفاهية اجتماعية. لدينا مبدعون لكنهم أول من يقمع من جهاز السلطة ولا قراء لتعويضهم عن جهدهم الفكري والتفاعل معهم. لدينا طاقات علمية لكنها تغادر أوطانها بحثا عن أسواق عمل تناسب تخصصاتها. مجتمعاتنا تعاني اليوم من فقر في الاختصاصات، أي تفتقد للقوى المفترض ان تقود عصر تنوير عربي.
ان الإفرازات التي يخلفها هذا الواقع تعيث اليوم فسادا ودمارا للطبيعة والإنسان!!

nabiloudeh@gmail.com

الجمعة، 6 يوليو 2018

فلسفة مبسطة: مفهوم العقلانية


  
فلسفة مبسطة: مفهوم العقلانية
(كيف نميز بين المتشائم، المتفائل والعقلاني؟)
نبيل عودة

اصل التعبير من(RATIO) وتعني “عقل، بصيرة” والاصطلاح هو ( RATIONALIS – راتسيوناليس – او "راتسيوناليزم" كما نلفظها ونستعملها بتعبيرها اللاتيني) ويعني حرفيا اسلوب التفكير او التفلسف. لكن الفلسفة الحديثة والعلوم بتطورهما تجاوزا هذا التفسير الكلاسيكي الضيق وجعلته أكثر اتساعا خاصة في مجال العلوم.
ترجمة “راتسيوناليزم” باصطلاح “العقلانية” لا يفسر المعنى الفلسفي الكامل. هذا المفهوم في الفلسفة يعني أيضا التصرفات التي تخدم أهداف الإنسان. تعني سلطة العقل بالتوافق مع المنطق، حسب فلسفة المنطق كل المعلومات التي مصدرها الأحاسيس وليس العقل هي غير قائمة. ايضا تفسر العقلانية على انها رؤية اساسية يجب ان يكون العامل النافذ -المقرر هو المنطق الفعلي وليس مجال الاحاسيس. كذلك يعني اصطلاح العقلانية الفلسفي بأنه صفة لمن يفكر وان للذكاء توجد أسبقية عن الطرق الأخرى بتحصيل المعرفة.
تعني العقلانية قدرة الانسان في حياته اليومية وممارسته المعرفية على اجراء محاكمات واعية بعيدا قدر الامكان عن تسلط المشاعر والعواطف او أي اعتبار شخصي آخر مع او ضد.
تنفي العقلانية المعرفة الحسية التجريبية التي تدعي امكانية الفهم عن طريق الاحساس ألشخصي، الإدراك والتصور، اي القناعات الموروثة التي تصبح جزءا من عقل الانسان وتفكيره الخيالي(الميتافيزيائي). العقلانية تعتبر هذه الظاهر غير كاملة ولا تنطلق من أي معرفة يقينية. العقل لوحده فقط قادر على التوصل الى المعرفة الصحيحة الشاملة والضرورية.
تبرز النزعة العقلانية في العلوم أكثر من أي مجال آخر. العلوم تعتمد على حقائق وليس احاسيس وتخيلات. أكثر من ذلك يجري تطور العلوم بناء على نقدها ونقضها (تفنيدها) العلمي المعرفي، وليس الخرافي والأسطوري. بينما التخيلات والأحاسيس لا يمكن ادراكها بأدوات علمية .. ولا علاقة لها بتطور المعرفة العلمية للإنسانية. ونقدها لا يعطي أي نتيجة لمن صيغت عقولهم واغلقت عن أي رؤية مناقضة لما نشأوا عليه وما ورثوه كحقائق لا تناقش.
لفهم الموضوع في جانبه الانساني تروي احدى القصص حادثة شارك فيها ثلاثة أشخاص، متشائم، متفائل وعقلاني وكيف يكون تصرفهم امام حادث ما؟ المتفائل يعتقد ان ما هو قائم هو الأفضل اطلاقا، بينما المتشائم يخاف ان يكون ذلك صحيحا. العقلاني له موازين أخرى نسبية يقيس فيها الواقع .. لفهم أسهل. أُقدم لكم احدى قصصي الفلسفية حول نفس الموضوع:

متشائم، متفائل وواقعي

اختلف أساتذة علم النفس في إيجاد تفسير واضح، يعتمد رؤية متكاملة دقيقة للتمييز بين المتشائم والمتفائل والواقعي.
طرحوا تفسيرات مختلفة، لا شك أنها تفسر بشكل صحيح المعنى المعتمد علمياً، لكنها تفسيرات متوقعة، يمكن القول أنها من النمط المعروف والتقليدي الذي لا تجديد فيه، لا يعطي مقارنات عملية، تشبه تفسير الطب لتكاثر الخلايا السرطانية، الظاهرة معروفة، لكن لا أحد يعرف سبب خروج الخلية عن اتزانها واختلال نشاطها الذي يقود إلى النمو السرطاني المنفلت، هناك تفسيرات بلا نهاية، كل تفسير يعبّر عن اجتهاد صاحبه، قد تجد ألف تفسير وألف سبب .. كلها صحيحة وكلها لا تكفي لفهم الظاهرة وحصرها بنقاط متفق عليها من الجميع .. لأن فهم الظاهرة يقود إلى معرفة علاجها وبالتالي تلاشيها أو صدها.
أحد الطلاب أصرّ أن يحصل على نموذج ملموس للمفاهيم الثلاثة المذكورة… بينما أستاذه يصر أن التفسيرات المقدمة كافية وصحيحة في تفسير الظاهرة، الطلاب وجدوها فرصة للتخلص من الدرس الجاف، الأمر الذي فتح حواراً واسعاً لم يتوقعه المحاضر وشعر بنفسه ينجرف مع طلابه.
مسألة بسيطة…
قال المحاضر، لكنه عاد لتفسيرات لا جديد فيها. قال:
المتشائم لا شيء يعجبه، دائماً يرى الشيء الناقص، مهما اكتملت حياته وتحسن وضعه، إلا انه يظل متمسكاً بالنواقص، لا يرى غيرها وتصبح هي العنصر الأساس. يعتبر كل نجاحاته وتطور مكانته ناقصة وغير مكتملة، كل شيء حوله ناقص وكئيب من وجهة نظره، كل ما يحصل عليه هو دائما أقل مما يستحقه، دائم الانتقاد، لا شيء يراه كاملاً، إن وقف أمام المرآة هجا نفسه وهو سريع الغضب أو يائس من مجرد وجوده.
بعد تأمل لم يطل لوجوه الطلاب لفحص تأثير شرحه عليهم واصل:
أما المتفائل، فهو إنسان مختلف بجوهره، ونقيض تماماً للمتشائم. يرى بكل خطوة تقدماً إلى الأمام .. في كل يوم جديد مكسباً كبيراً، الأمر الذي يجعله دائم الابتسام سعيداً بما يحصل عليه، مهما كان صغيراً وغير ملموس، حتى لو واجهته أزمة ما، نجده يميل إلى الثقة بأنها عابرة، غداً سيكون أفضل بالتأكيد .. وإذا ليس غدا فبعد غد… أو بعد بعد .. او كما كانت جارة لي تقول بسخرية: "انا متفائلة، اليوم أحسن من غدا"!
أضاف المحاضر بعد أن قطع المسافة بعرض الصف وطوله وهو يشعر بتجليه وإصابته الهدف بدقة:
أما الواقعي فهو الذي يبرر النجاح والفشل بعوامل موضوعية. كل ما يحدث له تفسيره. لا شيء يحدث بالصدفة. دائماً يرى الواقع في إطار من المعطيات وليس حسب أطماعه وميوله.
شعر المحاضر انه أوفى الموضوع حقه، نظر الى عيون الطلاب بنوع من التحدي والاإفحام . لكن طالبة تتميز عادة بقلة المشاركة، رغم تميزها التعليمي، اعترضت بالقول إن الموضوع الذي طرحه الأستاذ المحاضر هو تفسير أقرب للأنماط التعليمية التقليدية غير المبنية على رؤية عملية، أن موضوع التشاؤم والتفاؤل والواقعية لا يمكن تفسيرها فقط بخصائص اتَّفق عليها علماء النفس، لأن النفس البشرية أكثر تعقيداً واتساعاً من كل عالَم أطباء النفس.
نظر المحاضر إلى محياها الجميل وقال:
قبل أن أسمع صوتك كنت متشائماً بأني سأنهي الفصل الدراسي دون أن أسمعك مرة واحدة، لكن تشاؤمي لم يكن بمكانه والآن أنا متفائل أن أسمعك أكثر من مرة قبل انتهاء الفصل التعليمي.
أضاف وكأنه يبرر أقواله:
في الواقع ممنوع أن يلجأ المرء إلى التشاؤم أو التفاؤل قبل أن يدرك الحالة الموضوعية للشيء.. ان الواقعية أيضا تفرض ألا يبني الإنسان توقعاته حسب الشيء الظاهر لعينيه.
ضحك طلاب الصف وقال أحدهم:
أجدتَ يا أستاذ…
لكن عيون طلابه تقول: لا شيء جديد في قولك!!
الطالبة عبست ولم تتحرك قسمات وجهها. كانت تقف أشبه باللبؤة. قالت بعد ان ساد الهدوء:
لا جديد فيما تقوله أستاذي، اسمح لي ان أعارضك. انت زرعت فينا عنصر الشك في قبول الشيء قبل إثبات صحته، رغم اعترافي إنك أستاذ بارع وسريع البديهة، دروسك شيقة وتعبّئ دماغنا بمعلومات تنويرية رائعة، الا اننا نتوقع نموذجاً عملياً لثلاثة أشخاص، متشائم ومتفائل وواقعي سوية ورد فعلهم المختلف على ظاهرة مشتركة شاركوا فيها بالتساوي.
كاد المحاضر يرد بعصبية لأن الموضوع حسب اعتباره تافه من أن يضيع عليه حصة كاملة مليئة بنقاش استفزازي يظهره عاجزاً عن التفسير بما يرضي ميول طلابه وعنجهيتهم وغرورهم ومحاولتهم إرباكه، ظنّاً منهم انه غافل عن ميولهم.
كان على قناعة أن المسألة لا تستحق أكثر مما قدمه حتى الآن. لكن وقفة الطالبة، صوتها الواثق القوي، الضوء الذي يتلألأ في عينيها، أفهمه أنها ليست كما يظن، او انها صامتة من ضعف معرفتها… بل لأن عقلها هو الفعال، تشتري ولا تبيع، عندما لمست أن المحاضر والطلاب يدورون في حلقة مفرغة وقفت تتحدى، يبدو أنها أذكى مما كان انطباعه عنها حتى الآن، لا بد أنها تملك تفسيراً ملموساً، سيرفع أسهمها بين الطلاب وعند أستاذها بالتأكيد والا ما تجرأت على تحديه السافر. قال لنفسه: “المكتوب يقرأ من عنوانه”.
هذه الأفكار أعادت للمحاضر هدوءه ورغبته في سماع تعليلها .. قال بعد تفكير وعيناه لا تفارقان وجه طالبته العابس:
أعتقد أن تفسيراتنا، رغم صحتها، تفتقر إلى نماذج تطبيقية. أعترف أني لا أتذكر حادثة واحدة شارك بها النماذج الثلاثة وكيف تصرف كل واحد منهم. لكن يبدو أن زميلتنا الطالبة (وشدد نظراته اليها فاحصاً رد فعلها) لديها إجابة عملية ملموسة، قد تضيف أمراً أكثر وضوحاً لما فسرناه نظرياً .. تفضلي.
ابتسمت الطالبة ابتسامة عريضة، مزيلة عبوسها مؤكدة فوزها بالجولة الأولى (قال المحاضر لنفسه: “عبوسها من باب التمثيل ويبدو ان صمتها من عمق معرفتها”) وقالت وهي ترسم ابتسامة ذكرته بابتسامة الموناليزا الغامضة:
سافرت مع والديّ في أسبوع نقاهة إلى تركيا. أثناء استراحتنا في مطعم جبلي، قدمت لنا ثلاث كؤوس كبيرة من الماء البارد، كان حجم الكأس أكبر من الكأس العادية بالضعف او أكثر، وربما لهذا السبب لم تُملأ بالماء حتى حدها الأعلى وفقط لنصفها أو أكثر قليلاً.
صمتت لتتمتع بصمت القاعة كما يبدو والإنصات الكامل لكلماتها:
والدتي المتشائمة دائماً، عبست وهي تنظر لكأس الماء وقالت: “كيف يقدمون كؤوساً نصف فارغة، يتباخلون علينا بكاس مليئة بالماء؟” أرادت أن تستدعي الجرسون لتغسله بكلامها العصبي، كما تفعل عادة وتسبب لنا الإرباك. إلا أن والدي المتفائل دائماً سارع إلى مقاطعتها وتهدئتها بالقول: “انظري جيداً يا عزيزتي .. الكأس كبيرة جداً وهي نصف ممتلئة، لا ضرورة لبهدلة الجرسون، فلن تستطيعي شرب كل هذه الكمية من الماء ..؟”
واصلت بعد ان تمهلت “لتنظم بقية روايتها في دماغها” كما ظن المحاضر بينه وبين نفسه:
كنت أعلم أن الصدام بين والدي المتفائل دائماً ووالدتي المتشائمة سيحتد أن لم أسارع بالتدخل، كالعادة.. لوضع الأمور في مكانها الصحيح، قلت بسرعة، بواقعيتي التي تعلمتها من النقيضين أمي وأبي: “اعتقد أن المشكلة يا أمي حجم الكأس، الكأس أكبر من الحجم الذي نستعمله لشرب الماء، لذلك كمية الماء لا غبار عليها .. حجم هذه الكأس ضعفا الحجم العادي”.
فأضحكتها ضحكة سوداوية تعني أنها ستصمت رغم أنها لم تقتنع ..
ضج الصف بالتصفيق والضحك، والمعلم يصيح: “اعترف أنك فاجأتِني، ببساطة، تفسير رائع!”
nabiloudeh@hmail.com