الجمعة، 17 فبراير 2012



مساهمة في تكريم الأديب الناقد د. حبيب بولس


         بقلم:  نبيل عودة


التكريم المهيب (في الثالث من شباط 2012) في كفرياسيف للدكتور حبيب بولس،  الناقد الأدبي البارز في الثقافة العربية في اسرائيل،والمحاضر الجامعي ،وصاحب العديد من  الإصدارات الثقافية والفكرية والنقدية ، من أبرزها انطولوجيا " القصة العربية الفلسطينية المحلية القصيرة ، وذلك بحضور حشد كبير من المثقفين والباحثين ورجال الأكاديميا،  يعتبر حدثا ثقافيا نوعيا لنشاط متواصل ومسؤول لأحد الأدباء الأكثر نشاطا وتأثيرا في الثقافة العربية الفلسطينية في اسرائيل.
 أصدر حبيب بولس كتبا نقدية تناولت مجمل النشاط الابداعي للأدباء العرب في اسرائيل،الى جانب مراجعات ونقد للنشاط المسرحي، عدا كتب تعليمية مختلفة، ونشر كتابان عن قضايا اجتماعية وسياسية ملحة.
ظاهرة تكريم الأدباء، ايضا باصدار اعداد خاصة عن نشاطهم الابداعي ، كما تقوم بذلك مجلة "الشرق" لصاحبها الدكتور محمود عباسي، يعتبر معيارا لأهمية نشاط الأدباء المحليين. واهمية نشر الوعي الثقافي والتعريف بنشاط الشخصيات الأدبية، ولهذا تستحق المجلة وصاحبها وطاقم العاملين فيها الشكر.
تابعت باهتمام نشاط حبيب بولس منذ كتاباته الأولى التي لفتت انتباه حركتنا الثقافية ، ثم في اصداراته اللاحقة، واشير بشكل خاص الى  عمله الكبير "انطولوجيا القصة العربية الفلسطينية في إسرائيل" وارى بنشاط الدكتور الناقد حبيب بولس الابداعي قيمة ثقافية هامة، خاصة بما يتعلق بالثقافة المحلية ( الأدب العربي الفلسطيني في اسرائيل) الذي كرس له معظم جهده النقدي، أكثر من أي ناقد آخر، والأهم ما ميز نقده من وضوح واستقامة في الطرح ، ويمكن القول ان حبيب بولس باسلوبه ومضامين نقده، بنى تيارا نقديا خاصا. واليوم لا يمكن كتابة تقييم أدبي عن الأدب العربي الفلسطيني  في اسرائيل ،دون الاعتماد على مراجعات الدكتور حبيب بولس.
الى جانب نشاطه النقدي المميز، قدم الدكتور بولس برنامجا أدبيا تلفزيونيا (بين الكلمات)، من الممكن اعتباره مسحا ثقافيا لأدبنا المحلي، استضاف فيه كل الأسماء الأدبية الناشطة، وليت القناة التلفزيونية تحول حلقات برنامج حبيب بولس الى اشاريط تنشرها على اليوتيوب، لما فيها من أهمية ثقافية للأدباء والباحثين ومؤرخي الثقافة بما تضمنته من مواقف الأدباء ونشاطهم ومواقف الدكتور حبيب بولس من مختلف المواضيع التي طرحها على ضيوفه في برنامجه.
تابعت مقالات واصدارات حبيب بولس،واستعنت بآرائه ومشورته، وتبادلت معه الكثير من الأراء النقدية والثقافية التي أثرت على بالكثير من  مواقفي ، وأعطتني الطاقة لأستمر في حمل سلم النقد بالعرض ، وانا لا أعتبر نفسي ناقدا الا بالصدفة، ولا اكتب نقدي من منطلقات فكرية نقدية، انما كتابات انطباعية ذوقية، عبر تجربتي الكتابية الطويلة، وعبر تجنيد مفاهيمي الفلسفية لدور الثقافة والإبداع في حياة الناس والمجتمع.، وكنوع من رد الفعل على مرحلة من نقدنا المحلي جرى تجاهل ابداعات الأدباء الشباب وكنت منهم ، وكانت اول مراجعة نقدية ، وربما الوحيدة التي أحظى بها في ادبنا المحلي، مراجعة حبيب بولس لمجموعتي القصصية الأولى "نهاية الزمن العاقر".
كتبت عدة مراجعات ثقافية عن اصدارات الدكتور حبيب بولس، وبمناسبة تكريمه ، أجد نفسي اعود لكتاباتي السابقة عنه، ولبعض كتبه الأخيرة، المتوفرة في مكتبتي، لأقول بصوت جهوري ان كتابات حبيب بولس تتميز بسلاسة التعبير والابتعاد عن الاصطلاحات الفخمة والتي لا جدوى من الصاقها بالنص، ويبرز حبيب بولس في نصوصه بحسه الثقافي ، القريب من الابداع القصصي ، وهذا برز بقوة في كتابه "قرويات" (نوسطالجيا- حنين). رايت بهذا الكتاب تجلي حبيب بولس الأديب صاحب الحس الانساني ، والمثقف الموضوعي المرتبط بقضايا شعبه، حيث يروي حكاية وطن صغير اسمه كفرياسيف ، عبر التاريخ ، مسجلا بذلك اول عمل ثقافي من نوعه، يجمع بين التسجيل والرواية، بل ويمكن القول ان قرويات هي رواية تتجاوز باسلوبها المذكرات الشخصية والكتابة التسجيلية الى اسلوب الأدب الروائي. سألت قريب لي كان يروي احداث التاريخ ، وتفاصيل من مذكراته بطريقة تأسر المستمع، ويأسرني أنا بشكل خاص ،واتمنى ان أصيغ قصصي بمثل عذوبة وفن حديثه، مستغربا قدرته على حفظ التفاصيل الدقيقة وروايتها بكل ما كان يحيطها من تأثيرات. قال : الحدث تجده في كتب التاريخ، جافا وبلا جاذبية ، بل تسقط اهميته التي اكتسبها وقت وقوع الحدث نفسه. وأضاف :" ان من يروون الحدث كما هو، لا قيمة للإستماع لهم!!" وبعد لحظة تفكير أضاف:" الحدث هو حياة تنبض بروح انسانية، بمشاعر ، بقلب ينبض، بدماء تجري ،على الراوي أن يعرف التقاطها ودمجها برواياته. او ليصمت !" 
وحبيب عرف هذا الفن. وتكريما لهذا المبدع ، اعيد نشر انطباعاتي عن كتابه "قرويات" الذي أعتبرته وما زلت من أجمل وأبرز كتابات حبيب بولس ، واملي ان يتحفنا بجزء جديد من "قروياته" او نصراوياته ، على اساس انه أصبح من سكان الناصرة منذ زمن طويل!! 

_______________________________________________________________


قرويات حبيب بولس بين الحنين والجذور

حتى لا تضيع ذاكرة شعبنا الجماعية


" المفارقات بين واقعنا وبين ماضينا" هذا ما يتجلى للوهلة الاولى امام قارىء كتاب  "قرويات" للدكتور حبيب بولس .
 لكن الابحار مع نص "قرويات" يكشف لنا نوسطالجيا غير عادية عايشها حبيب بولس في قروياته ، مسجلاً تفاصيل بدأت تختفي من اجواء قرانا ومدننا العربية ، من علاقاتنا وممارساتنا اليومية ، من شوارعنا وبيوتنا ، من العابنا وتسالينا ، ومن وسائل تنقلنا ، من مدارسنا ، من معلمينا، من افراحنا واتراحنا ، من مفاهيمنا السياسية ووطنيتنا ، من مواسمنا وسهراتنا ، من أعيادنا وعقائدنا الدينية ، من ثقافتنا وفنوننا ونضالاتنا .
التغيير الذي يرصده حبيب كان اعمق من الشكل ، لدرجة انه شكل لنا مضامين جديدة ، افكاراً جديدة ، رؤية سياسية جديدة ، ثقافة جديدة ، اطعمة جديدة ، بل ولغة جديدة ايضاً في مفهوم معين . كأني به يرصد التاريخ والعوامل "التاريخية" والثقافية التي غيرت مسقط رأسة ، قريته الجليلية "كفرياسيف" بشكل خاص وغيرت واقع بلداتنا كلها بشكل عام  وغيرتنا نحن ( الناس ) في الحساب الأخير .
 الى حد ما تذكرني "قرويات " حبيب بولس بكتاب للروائي  السعودي عبد الرحمن منيف عن مدينة "عمان" .. حيث يعود بذاكرته الى عمان في سنوات العشرين من القرن الماضي ليعيد تشكيلها . حبيب في قروياته يرسم "لوحة نثرية " ان صح هذا التعبير ، لقرية علم من قرانا ، كانت علماً سياسياً وعلماً ثقافياً ، وهو بذلك يضيف لها بعداً جديداً ، علماً تراثياً اصيلاً ، وربما يريد ان يقول لنا ان هذه الاصالة التي عرفتها كفر ياسيف ، هي اصالة دائمة لا تنتهي ، انما تتحول وتنطلق نحو اصالات جديدة دوماً .  حبيب في قروياته يريد ان يقول لكل واحد منا ان في داخله اصالة حقيقية ، يجب ان يخرجها من داخله ويورثها لأبنائه . وهذا بالضبط ما يفعله حبيب بولس ،  وهو بالطبع يختار ابنه ،  ليورثه اصالة اجداده وأصالة قريته ، وأصالة شعبه .. يختار ابنه ليورثه أهم ما يملكه الانسان في حياته ، ذاكرته الخصبة .. وليملأه بالكرامة وعزة النفس ، مقدما نموذجاً شخصياً ،استفزازيا لكل واحد منا ، ولكنه استفزاز طيب وانساني ،  يحثنا بسياقه على الكشف عن جذورنا الاصيلة ، عن نقاوتنا ، عن قيمنا المغروزة بأعماقنا الانسانية ، عنى جوهرنا الطيب الذي كان العنصر الحاسم في صيانة شخصيتنا الوطنية والانسانية امام ما يجري في مجتمعنا من ردة حضارية ، وتعصبات قبلية وسياسية ودينية حمقاء ، هذه هي المفارقة الاخرى التي يصدمنا بها حبيب في كشفه عن جوهر اللؤلؤة المكنونة كفر ياسيف ، بصفتها نموذجا وطريقا وتاريخا  .
 هذا النص الادبي يتجاوز الكتابة التسجيلية التاريخية ، ويقترب من النص الثقافي الحكائي ، البطل فيه هي قرية كفر ياسيف واهلها ، والهدف حفظ الذاكرة الجماعية لكفرياسيف ، ولعلها الخطوة الاولى لبدء حفظ ذاكرة شعبنا الجماعية  في كل اماكن تواجده .
 "البطل"الآخر في هذا النص هو الرواي نفسه ، وكأني به يعود الى الايام الخوالي ، ليتقمص شخصية الراوي التي عرفتها قرانا وسهراتنا ايام زمان ، وليجعل من هذه الشخصية ذاكرة للزمن ايضاً ، يستعين بها الراوي- الكاتب لينقل للأجيال الجديدة ، ابنه في المفهوم الضيق ، وابناء كفر ياسيف ، وكل ابناء شعبنا من الاجيال الناشئة في المفهوم الواسع ، اصالة الماضي واصالة الانسان ، واصالة الشعب وليس فقط الحنين الذاتي (النوسطالجيا ) . ربما هي نوستالجيا فعلا ، ولكنها نوستالجيا لابناء جيلنا الذي حان الوقت ليسجلوا ذاكرتهم حفظا من الضياع .
 حبيب اختار اسلوباً جيداً ليروي لنا روعة الماضي ، عبر المقارنة الدائمة مع الواقع اليوم ، وذلك ليعمق، ليس روعة الماضي فحسب ، بل روعة الانسان الذي اجتاز المأساة الوطنية  وصمد ، وواجه القمع القومي بأبشع أشكاله ، ولم يفقد بوصلته الانسانية ..  وبدأ يبني نفسه من جديد وينطلق الى آفاق رحبة من العلوم والثقافة والتطور والصمود .
 في قروياته نكتشف حبيب بولس الآخر ، حبيب الحالم ، نصاً ولغة ، فنراه يقترب من لغة القص في سرده ، ليتغلب على السرد التوثيقي والتاريخي ، ونراه يستطرد في اعطاء النماذج والحكايات ليجعل قروياته اكثر قرباً للرواية والدهشة الروائية وعناصر التشويق الحكائية ، وليس مجرد تسجيلا توثيقيا للذاكرة . واقول بلا وجل : هي حقاً رواية من نوعع جديد بطلتها قرية بناسها وأحداثها.
قد لا يوافقني بعض الزملاء على تصنيفي لقرويات حبيب بولس ضمن النصوص الروائية ، قد يكونوا صادقين شكليا ، وأقول شكليا ، اذا التزمنا المفاهيم المتعارف عليها في التعريفات الأدبية . ولكن من يملك الحق في جعل التعريفات قانونا ، وهل يعترف الابداع بقوننة جنونه ؟
والأمر الأساسي  ، هل من قيمة للتصنيف الادبي ؟ وهل يضيف التصنيف لقيمة العمل ؟ الا يكفي الكاتب ، انه اعطى للقارىء نصاً لا يفارقه بعد طي الصفحة الاخيرة ؟ 
حبيب في قروياته ، اعطانا عملاً توفرت فيه العديد من المركبات الناجحة ، اللغة اولاً ، الفكرة ثانياً ، والاسلوب . كتاب "قرويات" يسد فراغاً كبيراً بمضمونه المميز ، وهو ليس مجرد نوسطالجيا (حنين) بل كشف عن ثراء شعبنا واصالته وعمق جذوره في هذه الارض الطيبة . ولعل قرويات يكون فاتحة لتسجيل التاريخ الشفهي ، والتراث الشعبي المتوارث شفهيا ، وسجل نضالنا الأسطوري الذي يملأ صفحات ، اذا ما سجلت ستشكل ثروة اجتماعية سياسية ثقافية ، عن بقايا شعب ، لم يفقد ثقته بنفسه ، واجه المستحيل وانتصر .. واجه الضياع وبنى ذاته من جديد ، ليقف اليوم في مرتبة متقدمة بين الشعوب ، فخورا معتزا متفائلا ..


نبيل عودة –  nabiloudeh@gmail.com



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق